المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.وبعد:
فبتوفيق الله تعالى ومنه كرمه تم طبع هذا الكتاب المنتقى من كتاب "التفسير والمفسرون" للدكتور محمد حسين الذهبي.
وقد وقع اختيار إدارة الدراسات الإسلامية على انتقاء الفصل المتعلق بالتفسير بالرأي، كمقرر يدرس في الفصل الثالث في معهد الدراسات الإسلامية، وذلك نظرا لما لهذا المبحث من أهمية عظيمة، إذ به يعلم الدارس الشروط والقيود والعلوم التي يجب توافرها في المفسر للقرآن الكريم، والأمور التي يجب على المفسر تجنبها، حتى يكون على بينة ووضوح من أمره حين نظره في القرآن الكريم، فيتفادى الوقوع في الخطأ والانحراف الذي وقعت فيه بعض الفرق الضالة، والتي أخذت تفسر القرآن الكريم تفسيرا يوافق آراءها ومشاربها المنحرفة.
وليس ذنبا أعظم عند الله تعالى من التقول عليه بما لم يقله، فالمفسر للقرآن الذي يفسره بلا علم ولا دراية ولا تأهيل شرعي في شتى الفنون المختلفة والمتصلة صلة وثيقة بالقرآن الكريم، إنما يفترى على الله تعالى الكذب إن لم يصب الحق ، وإن أصاب الحق فهو آثم من جهة تعديه على كتاب الله وكلامه بلا علم ودراية، ويؤيد هذا قول النبي r "ومن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"(1) وقوله r : "اتقوا الحديث عني إلا ما عملتم، فمن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
وهذا المقرر يتناول موضوع التفسير بالرأي، وآراء العلماء فيه وموقف الفرق المختلفة منه تناولا علميا موضوعيا نزيها، جَلَّى فيه مؤلفه المسلك الصحيح والمنهج القويم لتفسير القرآن الكريم بالرأي، والشروط التي يجب توافرها في كل من يقوم بتفسير كتاب الله عز وجل.
هذا ونرجو الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب دارسيه وقارئيه، وان يأخذ بأيديهم وأيدينا إلى طرق الخير والهداية.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مدير إدارة الدراسات الإسلامية
الفصل الثاني
التفسير بالرأي وما يتعلق به من مباحث
· معنى التفسير بالرأي:
يطلق الرأي على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد ، وعلى القياس ، ومنه أصحاب الرأي، أي أصحاب القياس.
والمراد بالرأي هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي، عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر، وسنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.
* * *
· موقف العلماء من التفسير بالرأي:
اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير القرآن بالرأي، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين :
فتقوم تشددوا في ذلك فلم يجرأوا على تفسير شئ من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير شئ من القرآن وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روى النبي r ، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة t ، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين(1).
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأسا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده.
والفريقان على طرفي نقيض فيما يبدو، وكل يعزز رأيه ويقويه بالأدلة والبراهين.
أما الفريق الأول – فريق المانعين – فقد استدلوا بما يأتي:
أولا : قالوا: أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم منهي عنه، فالتفسير بالرأي منهي عنه، دليل الصغرى: أن المفسر بالرأي ليس على يقين بأنه أصاب ما أراد الله تعالى، ولا يمكنه أن يقطع بما يقول، وغاية الأمر أنه بقول بالظن، والقول بالظن قول على الله بغير علم، ودليل الكبرى: قوله تعالى: } وأن تقولوا على الله مالا تعلمون { وهو معطوف على ما قبله من المحرمات في قوله تعالى في الآية (33) من سورة الأعراف : } قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن {... الآية، وقوله تعالى في الآية (36) من سورة الإسراء : } ولا تقف ما ليس لك به علم {..
وقد رد المجيزون هذا الدليل فقالوا: نمنع الصغرى، لأن الظن نوع من العلم، إذ هو أدراك الطرف الراجح، وعلى فرض تسليم الصغرى فإنا نمنع الكبرى، لأن الظن منهي عنه إذا أمكن الوصول إلى العلم اليقيني القطعي، بأن يوجد نص قاطع من نصوص الشرع، أو دليل عقلي موصل لذلك أما إذا لم يوجد شئ من ذلك، فالظن كاف هنا، لاستناده إلى دليل قطعي من الله سبحانه وتعالى على صحة العمل به إذ ذاك كقوله تعالى: } لا يكلف الله نفسا إلا وسعها { .. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((جعل الله للمصيب اجرين وللمخطئ واحدا)) ولقول رسول الله r لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((فبم تحكم ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي، فضرب رسول الله r في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله)).
ثانيا: استدلوا بقوله تعالى: } وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم {(1) .. فقد أضاف البيان إليه، فعلم أنه ليس لغيره شئ من البيان لمعاني القرآن.
وأجاب المجيزون عن هذا الدليل فقالوا: نعم إن النبي r مأمور بالبيان، ولكنه مات ولم يبين كل شئ فما ورد بيانه عنه r ففيه الكفاية عن فكرة من بعده، وما لم يرد عنه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده، فيستدلون بما ورد بيانه على ما لم يرد، والله تعالى يقول في آخر الآية: } ولعلهم يتفكرون {.
ثالثا: استدلوا بما ورد في السنة من تحريم القول في القرآن بالرأي فمن ذلك:
1- ما رواه الترمذي عن ابن عباس t عن النبي r أنه قال: ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" – قال أبو عيسى :(1) هذا حديث حسن.
2- ما وراه الترمذي وأبو داوود عن جندب أنه قال: قال رسول الله r : ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ))..
وأجاب المجيزون عن هذين الحديثين بأجوبة:
منها: أن النهي محمول على من قال برأيه في نحو مشكل القرآن، ومتشابهه، من كل ما لا يعلم إلا عن طريق النقل عن النبي r والصحابة عليهم رضوان الله.
ومنها: أنه أراد بالرأي الرأي الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، أما الذي يشده البرهان، ويشهد له الدليل، فالقول به جائز، فالنهي على هذا متناول لمن كان يعرف الحق ولكنه له في الشئ رأي وميل إليه من طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق هواه، ليحتج به على تصحيح رأيه الذي يميل إليه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما لاح له هذا المعنى الذي حمل القرآن عليه، ومتناول لمن كان جاهلا بالحق ولكنه يحمل الآية التي تحتمل أكثر من وجه على ما يوافق رأيه وهواه، ويرجح هذا الرأي بما يتناسب مع ميوله، ولولا هذا لما ترجح عنده ذلك الوجه.
ومتناول أيضا لمن كان له غرض صحيح ولكنه يستدل لغرضه هذا بدليل قرآني يعلم أنه ليس مقصودا به ما أراد، مثل الداعي إلى مجاهدة النفس الذي يستدل على ذلك بقوله تعالى: } اذهب إلى فرعون أنه طغى {(2)..
ويريد من فرعون النفس، ولا شك أن مثل هذا قائل في القرآن برأيه.
ومنها : أن النهي محمول على من يقول في القرآن بظاهر العربية، من غير أن يرجع إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله، وأدوا إلينا من السنن ما يكون بيانا لكتاب الله تعالى، وبدون أن يرجع إلى السماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن، وما فيه من المبهمات، والحذف، والاختصار، والإضمار، والتقديم، والتأخير، ومراعاة مقتضى الحال، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك من كل ما يجب معرفته لمن يتكلم في التفسير، فان النظر إلى ظاهر العربية وحده لا يكفي، بل لابد من ذلك أولا، ثم بعد ذلك يكون التوسع في الفهم والاستنباط.
فمثلا قوله تعالى: } وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها {(1)..
معناه: وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة، وآية بينة على صدق رسالته، فظلموا بعقرها أنفسهم، ولكن الواقف عند ظاهر العربية وحدها بدون أن يستظهر بشئ مما تقدم، يظن أن مبصرة من الأبصار بالعين، وهو حال من الناقة وصف لها في المعنى، ولا يدري بعد ذلك بم ظلموا، ولا من ظلموا.
كل من هذه الأجوبة الثلاثة، يمكن أن يجاب به على من يستند في قوله بحرمة التفسير بالرأي على هذين الحديثين المتقدمين ، وهي أجوبة سليمة دامغة، كافية لإسقاط حجتهما والاعتماد عليهما.
هذا ويمكن الإجابة عن حديث جندب ـ زيادة عما تقدم ـ بأن هذا الحديث لم تثبت صحته، لأن من رواته سهيل بن أبي حزم، وهو متكلم فيه، قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوى، وكذا قال البخاري والنسائي، وضعفه ابن معين وقال فيه الإمام احمد: روي أحاديث منكرة(2) والترمذي نفسه يقول بعد روايته لهذا الحديث : ((وقد نكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم)).
رابعا : ما ورد عن السلف من الصحابة والتابعين، من الآثار التي تدل على أنهم كانوا يعظمون تفسير القرآن ويتحرجون من القول فيه بآرائهم .
فمن ذلاك: ما جاء عن أبي مليكة أنه قال: سئل أبو بكر الصديق t في تفسير حرف من القرآن فقال: ((أي سماء تظلني، وأين ارض تقلني، وأين اذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى؟)).
وما ورد عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سئل عن الحلال والحرام تكلم وإذا سئل عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع شيئا.
وما روى عن الشعبي أنه قال: ((ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي)).
وهذا ابن مجاهد يقول: ((قال رجل لأبي : أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي، ثم قال: إني إذن لجر، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي r ورضى عنهم)).
وهذا هو الأصمعي إمام اللغة، كان مع علمه الواسع شديد الاحتراز في تفسير الكتاب، بل والسنة، فإذا سئل عن معنى شئ من ذلك يقول: ((العرب تقول: معنى هذا كذا، ولا اعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شئ هو)).
.. وغير هذا كثير من الآثار الدالة على المنع من القول في التفسير بالرأي.
وقد أجاب المجيزون عن هذه الآثار: بأن إحجام من أحجم من السلف عن التفسير بالرأي، إنما كان منهم ورعا واحتياطا لأنفسهم، مخالفة ألا يبلغوا ما كلفوا به من إصابة الحق في القول، وكانوا يرون أن التفسير شهادة على الله بأنه عني باللفظ كذا وكذا، فأمسكوا عنه خشية أن لا يوافقوا مراد الله عز وجل، كان منهم من يخشى أن يفسر القرآن برأيه فيجعل في التفسير إمام يبني على مذهبه ويقتفي طريقه، فربما جاء أحد المتأخرين وفسر القرآن برأيه فوقع في الخطأ، ويقول : أمامي في التفسير بالرأي فلان من السلف.
ويمكن أن يقال أيضا: أن إحجامهم كان مقيدا بما لم يعرفوا وجه الصواب فيه، أما إذا عرفوا وجه الصواب فكانوا لا يتحرجون من إبداء ما يظهر لهم ولو بطريق الظن، فهذا أبو بكر t يقول: وقد سئل عن الكلالة ـ ((أقول فيها برأي فإن كان صوابا من الله، وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان: الكلالة كذا وكذا)).
ويمكن أن يقال أيضا: إنما أحجم من أحجم، لأنه كان لا يتعين للإجابة لوجود من يقوم عنه في تفسير القرآن وإجابة السائل وإلا لكانوا كاتمين للعلم وقد أمرهم الله ببيانه للناس.
وهناك أجوبة أخرى غير ما تقدم والكل يوضح لنا سر إحجام من أحجم من السلف عن القول في التفسير برأيهم، ويبين أنه لم يكن عن اعتقاد منهم بعدم جواز التفسير بالرأي.
وأما الفريق الثاني ـ فريق المجوزين ـ فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
أولا: بنصوص كثيرة وردت في كتاب الله تعالى: منها قوله تعالى: } أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب أقفالها..{(1) وقوله: } كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب{..
وقوله: } ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم {(1) وجه الدلالة في هذه الآيات: أنه تعالى حث في الآيتين الأوليين على تدبر القرآن والاعتبار بآياته، والاتعاظ بعظاته، كما دلت الآية الأخيرة على أن في القرآن ما يستنبطه أولوا الألباب باجتهادهم، ويصلون إليه بأعمال عقولهم وإذا كان الله قد حثنا على التدبر وتعبدنا بالنظر في القرآن واستنباط الأحكام منه، فهل يعقل أن يكون تأويل ما لم يستأثر الله بعلمه محظورا على العلماء، مع أنه طريق العلم، وسبيل المعرفة والعظة؟ لو كان ذلك لكنا ملزمين بالاتعاظ والاعتبار بما لا نفهم ولما توصلنا لشئ من الاستنباط ولما فهم الكثير من كتاب الله تعالى.
ثانيا: قالوا: لو كان التفسير بالرأي غير جائز لما كان الاجتهاد جائزا، ولتعطل كثير من الأحكام، وهذا باطل بين البطلان، وذلك لأن باب الاجتهاد لا يزال مفتوحا إلى اليوم أمام أربابه، والمجتهد في حكم الشرع مأجور أصاب أو أخطأ، والنبي r لم يفسر كل آيات القرآن ولم يستخرج لنا جميع ما فيه من أحكام.
ثالثا: استدلوا بما ثبت من أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قرأوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه في تفسيره على وجوه، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه في تفسير القرآن من النبي r ، إذ أنه لم يبين لهم كل معاني القرآن، بل بين لهم بعض معانيه، وبعضه الآخر توصلوا إلى معرفته بعقولهم واجتهادهم، ولو كان القول بالرأي في القرآن محظورا لكانت الصحابة قد خالفت ووقعت فيما حرم الله ونحن نعيذ الصحابة من المخالفة والجرأة على محارم الله.
رابعا: قالوا: أن النبي r دعا لابن عباس t ، فقال في دعائه له: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل كالتنزيل، لما كان هناك فائدة لتخصيص ابن عباس بهذا الدعاء، فدل ذلك على أن التأويل الذي دعا به الرسول r لابن عباس أمر آخر وراء النقل والسماع، ذلك هو التفسير بالرأي والاجتهاد وهذا بين لا إشكال فيه.
هذه هي أدلة الفريقين، وكل يحاول بما ذكر من الأدلة أن يثبت قوله ويركز مدعاه، والغزالي ـ في الأحياء، بعد الاحتجاج والاستدلال على بطلان القول بأن لا يتكلم احد في القرآن إلا بما يسمعه ـ يقول : ((فبطل أن يشترط السماع في التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله))(1) كما قال قبل ذلك بقليل : ((أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه))(2).
والراغب الأصفهاني ـ بعد ذكر المذهبين وأدلتهما في مقدمة التفسير ـ يقول : ((وذكر بعض المحققين: أن المذهبين هما الغلو والتقصير، فن اقتصر على المنقول إليه فقد ترك كثيرا مما يحتاج إليه، ومن أجاز لكل احد الخوض فيها فقد عرضه للتخليط، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى: } ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب {(3) أ هـ (14)
* * *
· حقيقة الخلاف:
ونحن مع هذا البعض الذي نقل عنه الراغب هذا التحقيق أن وقف الفريق الأول عند المنقول فلم يتجاوزه، وأجاز الفريق الثاني لكل احد الخوض في التفسير والكلام فيه، إذا أن الجمود على المنقول تقصير وتفريط بلا نزاع، والخوص في التفسير لكل إنسان غلو وإفراط بلا جدال.
ولكن لو رجعنا إلى هؤلاء المتشددين في التفسير وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هؤلاء المجوزين للتفسير بالرأي ووقفنا على ما شرطوه من شروط لابد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه، وحللنا أدلة الفريقين تحليلا دقيقا، لظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي ولبيان ذلك نقول:
الرأي قسمان: قسم جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول: مع موافقة الكتاب والسنة، ومراعاة سائر شروط التفسير، وهذا القسم جائز لا شك فيه، وعليه يحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأي.
وقسم غير جار على قوانين العربية، ولا موافق للأدلة الشرعية، ولا مستوف لشرائط التفسير، وهذا هو مورد النهي ومحط الذم، وهو الذي يرمي إليه كلام ابن مسعود إذ يقول: ((ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع)) وكلام عمر إذ يقول: ((إنما أخاف عليكم رجلين، رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه)) وكلامه إذ يقول: ((ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله)).. فكل هذا ونحوه وارد في حق من لا يراعى في تفسير القرآن قوانين اللغة ولا أدلة الشريعة، جاعلا هواه رائده، ومذهبه قائده، وهذا هو الذي يحمل عليه كلام المانعين للتفسير بالرأي، وقد قال ابن تيمية ـ بعد أن ساق الآثار عمن تحرج من السلف من القول في التفسير ـ فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة، لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه هذا هو الواجب على كل أحد، فأنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: } لتبيننه للناس ولا تكتمونه {(1)، ولما جاء في الحديث المروي من طرق: ((من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار))(2). أ هـ.
وإذ قد علمنا أن التفسير بالرأي قسمان: قسم مذموم غير جائز، وقسم ممدوح جائز، وتبين لنا القسم الجائز محدود بحدود، ومقيد بقيود، فلا بد من أن نعرض هنا لما ذكروه من العلوم التي يحتاج إليها المفسر، وما ذكروه من الأدوات التي إذا توافرت لديه وتكاملت فيه، خرج عن كونه مفسرا للقرآن بمجرد الرأي ومحض الهوى.
* * *
· العلوم التي يحتاج إليها المفسر:
اشترط العلماء في المفسر الذي يريد أن يفسر القرآن برأيه بدون أن يلتزم الوقوف عند حدود المأثور منه فقط، أن يكون ملما بجملة من العلوم التي يستطيع بواسطتها أن يفسر القرآن تفسيرا عقليا مقبولا، وجعلوا هذه العلوم بمناسبة أدوات تعصم المفسر من الوقوع في الخطأ، وتحميه من القول على الله بدون علم، وإليك هذه العلوم مفصلة، مع توضيح ما لكل علم منها من الأثر في الفهم وإصابة وجه الصواب:
الأول: علم اللغة: لأن به يمكن شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع قال مجاهد: ((لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب))، ثم أنه لابد من التوسع والتبحر في ذلك، لأن اليسير لا يكفي إذ ربما كان اللفظ مشتركا، والمفسر يعلم احد المعنيين ويخفي عليه الآخر وقد يكون هو المراد.
الثاني: علم النحو: لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب، فلابد من اعتباره اخرج أبو عبيد عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعي بوجهها فيهلك فيها.
الثالث: علم الصرف: وبواسطته تعرف الأبنية والصيغ قال ابن فارس ((ومن فاته المعظم لأن "وجد" مثلا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها)) وحكى السيوطي عن الزمخشري أنه قال: ((من بدع التفاسير قول من قال: إن الإمام في قوله تعالى: } يوم ندعوا كل أناس بإمامهم {(1) جمع أم، وإن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم قال: وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف فإن أما لا تجمع على إمام)).
الرابع: الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما، كالمسيح مثلا، هل هو من السياحة أو من المسح؟
الخامس والسادس والسابع: علوم البلاغة الثلاثة ((المعاني، والبيان، والبديع)): فعلم المعاني، يعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى. وعلم البيان يعرف به خواص التراكيب من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وعلم البديع، يعرف به وجوه تحسين الكلام وهذه العلوم الثلاثة من أعظم أركان المفسر لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز وذلك لا يدرك إلا بهذه العلوم.
الثامن: علم القراءات: إذ بمعرفة القراءة يمكن ترجيح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
التاسع: علم أصول الدين: وهو علم الكلام وبه يستطيع المفسر أن يستدل على ما يجب في حقه تعالى، وما يجوز وما يستحل وان ينظر في الآيات المتعلقة بالنبوات والمعاد وما إلى ذلك نظرة صائبة ولولا ذلك لوقع المفسر في ورطات.
العاشر: علم أصول الفقه: إذ به يعرف كيف يستنبط الأحكام من الآيات ويستدل عليها، ويعرف الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي، وما سوى ذلك من كل ما يرجع إلى هذا العلم.
الحادي عشر: علم أسباب النزول: إذ أن معرفة سبب النزول يعين على فهم المراد من الآية.
الثاني عشر: علم القصص: لأن معرفة القصة تفصيلا يعين على توضيح ما أجمل منها في القرآن.
الثالث عشر: علم الناسخ والمنسوخ: وبه يعلم المحكم من غيره ومن فقد هذه الناحية ربما أفتى بحكم منسوخ فيقع في الضلال والإضلال.
الرابع عشر: الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم. ليستعين بها على توضيح ما يشكل عليه.
الخامس عشر : علم الموهبة: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم. وإليه الإشارة بقوله تعالى: } واتقوا الله، ويعلمكم الله {(1) .. وبقوله r: ((من عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم))، قال السيوطي بعد أن عد علم الموهبة من العلوم التي لابد منها للمفسر ((ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول: هذا شئ ليس في قدرة الإنسان, وليس الأمر كما ظننت من الإشكال، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد، قال في البرهان: ((اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ولا تظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة ،أو كبر، أو هوى، أو حب دنيا، أو وهو مصر على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب وموانع بعضها أكد من بعض)) قلت: وفي هذا المعنى قوله تعالى: } سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق { (2).. قال ابن عيينه: أنزع عنهم فهم القرآن، أخرجه ابن أبي حاتم))(3).
هذه هي العلوم التي اعتبرها العلماء أدوات لفهم كتاب الله تعالى، وقد ذكرناها مسهبة مفصلة، وإن كان بعض العلماء ذكر بعضا وأعرض عن بعض آخر، ومنهم من أدمج بعضها في بعض وضغطها حتى كانت اقل عددا مما ذكرنا، وليس هذا العدد الذي ذكرنا حاصراً لجميع العلوم التي يتوقف عليها التفسير، فإن القرآن ـ مثلا ـ قد اشتمل على أخبار الأمم الماضية وسيرهم وحوادثهم، وهي أمور تقتضي الإلمام بعلمي التاريخ وتقويم البلدان، لمعرفة العصور والأمكنة التي وجدت فيها تلك الأمم، ووقعت فيها هذه الحوادث، وارى أن أسوق هنا مقالة الأستاذ المرحوم السيد محمد رشيد رضا في مقدمة تفسيره تتميما للفائدة، وإليك نص هذه المقالة التي اقتبسها من دروس أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده عليه رضوان الله.
قال رحمه الله: ((للتفسير مراتب: أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير، وهذه هي التي قلنا أنها متيسرة لكل احد: } ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر {(1).. وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور:
احدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقبول فلان وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد، من ذلك لفظ التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقا، أو على وجه مخصوص، ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى، كقوله تعالى: } هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق { (2) .. فما هذا التأويل؟ يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة، ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب، فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى، فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه بعضا، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب، فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه، نعم إذا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة، ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب ((المعاني والبيان)) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب.
ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مسددين في النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع، أتحسبون أن ذلك كان طبيعيا لهم؟ كلا، وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة ولذلك صار أبناء العرب اشد عجمة من العجم عندما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعيا ذاتيا لما فقدوه في مدة خمسين سنة بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البشر، فقد انزل الله هذا الكتاب وجعله آخرون الكتب، وبين فيه ما لم يبين في غيره، بين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم، والسنن الإلهية في البشر، وقصد علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها والموافقة لسنته فيها، فلابد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير، علوية وسفلية، ويحتاج هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
قال الأستاذ الإمام: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى: } كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين { (1).. الآية، وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا، وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها، هل كانت نافعة أو ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السموات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شئ علما، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم أكون بنظرة في ظاهره، لكنا كن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة.
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي، أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، لآن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وان النبي r بعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها، إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه؟
هي يكتفي من علماء القرآن ـ دعاة الدين والمناضلين عنه بالتقليد ـ بأن يقولوا تقليدا لغيرهم: أن الناس كانوا على باطل، وان القرآن دحض أباطيلهم في الجملة؟ كلا.
وأقول الآن: يروى عن عمر t أنه قال: إن جهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة. بالمعنى، والمراد: إن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته، وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر، ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور، ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر، وتأثير تلك الآداب من أين جاء ؟
خامسها: العلم بسيرة النبي r وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل، وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها(1).
هذه هي عبارة الأستاذ الشيخ رشيد رضا بنصها، وفيها تركيز وإدماج لبعض ما قلناه من قبل، وفيها شرح وإيضاح لبعض آخر منه، وهي تلقي ضوءا على ما تقدم وتوضح بعض ما فيه من إيجاز.
* * *
· مصـادر التفسـير:
خرجنا من المعركة التي قامت بين المتحرجين من القول في التفسير بالرأي والمجيزين له ((بأن الخلاف لفظي لا حقيقي، وأسفرت النتيجة عن انقسام التفسير بالرأي إلى قسمين: قسم جائز ممدوح، وقسم حرام مذموم، وعرفنا العلوم التي يجب على المفسر معرفتها حتى يكون أهلاً للتفسير بالرأي الجائز، وبقى علينا بعد ذلك أن نذكر المصادر التي يجب على المفسر أن يرجع إليها عند شرحه للقرآن، حتى يكون تفسيره جائزا ومقبولا، وإليك أهم هذه المصادر:
أولا: الرجوع إلى القرآن نفسه: وذلك بأن ينظر في القرآن نظرة فاحص مدقق، ويجمع الآيات التي في موضوع واحد، ثم يقارن بعضها ببعضها الآخر، فان من الآيات ما أجمل في مكان وفسر في مكان آخر، ومنها ما أوجز في موضع وبسط في موضع آخر، فيحمل المجمل على المفسر، ويشرح ما جاء موجزا بما جاء مسهبا مفصلا، وهذا هو ما يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، فإن عدل عن هذا وفسر برأيه فقد اخطأ وقال برأيه المذموم.
ثانيا: النقل عن الرسول r، مع الاحتراز عن الضعيف والموضوع فأنه كثير، فإن وقع فيه تفسير صحيح عن رسول الله r فليس له أن يعدل عنه ويقول برأيه، لأن النبي r مؤيد من ربه، وموكول إليه أن يبين للناس ما نزل إليهم، فمن يترك ما يصح عن النبي r في التفسير إلى رأيه فهو قائل بالرأي المذموم.
ثالثا: الأخذ بما صح عن الصحابة في التفسير، ولا يغتر بكل ما ينسب لهم من ذلك، لأن في التفسير كثيرا مما وضع على الصحابة كذبا واختلاقا، فان وقع على قول صحيح لصحابي في التفسير، فليس له أن يهجره ويقول بريه، لأنهم اعلم بكتاب الله ، وأدرى بأسرار التنزيل، لما شاهدوه من القرائن والأحوال، ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة: الخلفاء الراشدين، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم، وقد سبق لنا أن عرضنا لقول الصحابي، هل له حكم المرفوع أولا، واستوفينا الكلام في ذلك بما يغني عن إعادته هنا.
ثم هل للمفسر أن يعدل عن أقوال التابعين في التفسير، أو لابد له من الرجوع إلى أقوالهم؟ خلاف سبق لنا أن عرضنا له أيضا فلا داعي لإعادته.
رابعا: الأخذ بمطلق اللغة، لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولكن على المفسر أن يحترز من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة، يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا توجد غالبا إلا في الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها روي البيهقي في الشعب عن مالك t أنه قال: ((لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا)).
خامسا: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع، وهذا هو الذي دعا به النبي r لابن عباس حيث قال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) والذي عناه على t بقوله ـ حين سئل: هل عندكم عن رسول الله r شئ بعد القرآن؟ ـ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يؤتيه الله عز وجله في القرآن.
ومن هنا اختلف الصحابة في فهم بعض آيات القرآن، فأخذ كل بما وصل إليه عقله، وأداه إليه نظرة.
· الأمور التي يجب على المفسر أن يتجنبها في تفسيره:
هناك أمور يجب على المفسر أن يتجنبها في تفسيره حتى لا يقع في الخطأ ويكون ممن قال في القرآن برأيه الفاسد، وهذه الأمور هي ما يأتي:
أولا: التهجم على بيان مراد الله تعالى من كلامه مع الجهالة بقوانين اللغة وأصول الشريعة، وبدون أن يحصل العلوم التي يجوز معها التفسير.
ثانيا: الخوض فيما استأثر الله بعلمه، وذلك كالمتشابه الذي لا يعلمه إلا الله فليس للمفسر أن يتهجم على الغيب بعد أن جعله الله تعالى سرا من أسراره وحجبه عن عباده.
ثالثا: السير مع الهوى والاستحسان، فلا يفسر بهواه ولا يرجح باستحسانه.
رابعا: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا، فيحتال في التأويل حتى يصرفه إلى عقيدته، ويرده إلى مذهبه بأي طريق أمكن، وإن كان غاية في البعد والغرابة.
خامسا: التفسير مع القطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير دليل، وهذا منهي عنه شرعا، لقوله تعالى في الآية (169) من سورة البقرة: } وأن تقولوا على الله مالا تعلمون {..
وإذ قد بينا أن المفسر لا يجوز له أن يتهجم على تفسير ما استأثر الله تعالى بعلمه وحجبه عن خلقه، وبينا أنه لا يجوز له أن يقطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير دليل، لزم علينا أن بين أنواع العلوم التي اشتمل عليها القرآن ما يمكن معرفته منها وما لا يمكن، فنقول:
أنواع علوم القرآن
تتنوع علوم القرآن إلى أنواع ثلاثة، وهي ما يأتي:
النوع الأول: علم لم يلطع الله عليه أحدا من خلقه، وهو ما أستأثر به من علوم أسرار كتابه، من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا النوع لا يجوز لأحد الخوض فيه والتهجم عليه بوجه من الوجوه إجماعا.
النوع الثاني: ما اطلع الله عليه نبيه r من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له r أو لمن أذن له: قيل: ومنه الحروف المقطعة في أوائل السور، ومن العلماء من يجعلها من النوع الأول.
النوع الثالث: علوم علمها الله نبيه مما أودع في كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها وهذا النوع قسمان:
قسم: لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وذلك كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ والقراءات، واللغات، وقصص الأمم الماضية، وأخبار ما هو كائن من الحوادث، وأمور الحشر والمعاد.
وقسم : يؤخذ بطريق النظر، والاستدلال والاستنباط والاستخراج من العبارات والألفاظ وهو ينقسم إلى قسمين: "احدهما": اختلفوا في جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات، "وثانيهما": اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية، والمواعظ والحكم والإشارات وما شاكل ذلك من كل ما لا يمتنع استنباطه من القرآن واستخراجه منه لمن كان أهلا لذلك.
* * *
· المنهج الذي يجب على المفسر أن ينهجه في تفسيره:
علمنا مما سبق: أن المفسر برأيه لا بد أن يلمه بكل العلوم التي هي وسائل لفهم كتاب الله، وأدوات للكشف عن أسراره كما علمنا مما سبق أيضا: أن المفسر لابد أن يطلب المعنى أولا من كتاب الله، فإن لم يجده طلبه من السنة، لأنها شارحة للقرآن وموضحة له، فإن أعجزه ذلك رجع إلى أقوال الصحابة، لأنهم أدرى بكتاب الله واعلم بمعانيه، لما اختصوا به من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، ولاحتمال أن يكونوا سمعوه من الرسول r، فإن عجز عن هذا كله، ولم يظفر بشئ من تلك المراجع الأولى للتفسير، فليس عليه بعد ذلك إلا أن يعمل عقله، ويقدح فكره، ويجتهد وسعه في الكشف عن مراد الله تعالى، مستندا إلى الأصول التي تقدمت، مبتعدا عن كل ما ذكرنا من الأمور التي تجعل المفسر في عداد المفسرين بالرأي المذموم، وعليه بعد ذلك أن ينهج في تفسيره منهجا يراعي فيه القواعد الآتية، بحيث لا يحيد عنها، ولا يخرج عن نطاقها وهذه القواعد هي ما يأتي:
أولا: مطابقة التفسير للمفسر، من غير نقص لما يحتاج إليه في إيضاح المعنى، ولا زيادة لا تليق بالغرض ولا تناسب المقام، مع الاحتراز من كون التفسير فيه زيغ عن المعنى وعدول عن المراد.
ثانيا: مراعاة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فلعل المراد المجازي فيحمل الكلام على الحقيقة أو العكس.
ثالثا: مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام، والمؤاخاة بين المفردات.
رابعا: مراعاة التناسب بين الآيات، فيبين وجه المناسبة، ويربط بين السابق واللاحق من آيات القرآن، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه، وإنما هو آيات متناسبة يأخذ بعضها بحجز بعض.
خامسا: ملاحظة أسباب النزول، فكل آية نزلت على سبب فلابد من ذكره به بيان المناسبة وقبل الدخول في شرح الآية، وقد ذكر السيوطي في الإتقان أن الزركشي قال في أوائل البرهان ((قد جرت عادة المفسرين أن يبدأوا بذكر سبب النزول، ووقع البحث في أنه: أيهما أولى بالبداءة ؟ أيبدأ بذكر السبب، أو بالمناسبة لأنها المصححة لنظم الكلام، وهي سابقة على النزول؟ قال: والتحقيق التفصيلي بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على سبب النزول كآية: } إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها {(1) .. فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب، لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وان لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم وجه المناسبة))(2)
سادسا: بعد الفراغ من ذكر المناسبة وسبب النزول يبدأ بما يتعلق بالألفاظ المفردة، من اللغة والصرف، والاشتقاق، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب، فيبدأ، بالإعراب، ثم بما يتعلق بالمعاني، ثم البيان، ثم البديع، ثم يبين المعنى المراد، ثم يستنبط ما يمن استنباطه من الآية في حدود القوانين الشرعية.
سابعا: على المفسران يتجنب ادعاء التكرار في القرآن ما أمكن.
نقل السيوطي عن بعض العلماء أنه قال: ((مما يدفع توهم التكرار في عطف المترادفين نحو } لا تبقى ولا تذر{(3) .. } صلوات من ربهم ورحمة { (4).. وأشبه ذلك ، أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد انفراد احدهما، فإن التركيب يحدث معنى زائدا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى ، فكذلك كثرة الألفاظ))(5).
وعلى المفسر أيضا أن يتجنب كل ما يعتبر من قبيل الحشو في التفسير كالخوض في ذكر علل النحو، ودلائل مسائل أصول الفقه، ودلائل مسائل الفقه، ودلائل مسائل أصول الدين، فإن كل ذلك مقرر في تأليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه.
وكذلك على المفسر أن يتجنب ذكر ما لا يصح من أسباب النزول وأحاديث الفضائل، والقصص الموضوع، والأخبار الإسرائيلية، فإن هذا مما يذهب بجمال القرآن، ويشغل الناس عن التدبر والاعتبار.
ثامنا: على المفسر بعد كل هذا أن يكون يقظا، عليما بقانون الترجيح، حتى إذا ما كانت الآية محتملة لأكثر من وجه أمكنة أن يرجح ويختار.
وإذا كان المفسر لابد له من أن يحتكم إلى قانون الترجيح عندما تحتمل الآية أكثر من وجه فإنا في حاجة إلى بيان هذا القانون، الذي هو الحكم الفصل عند تزاحم الوجوه وكثرة الاحتمالات، فنقول:
قانون الترجيح في الرأي
أجمع كلمة قيلت في بيان هذا القانون، هي الكلمة التي نقلها لنا السيوطي في كتابه الإتقان عن البرهان للزركشي، ونرى أن نسوقها هنا نقلا عن الإتقان، ونكتفي بذلك لما فيها من الكفاية:
قال الزركشي رحمه الله تعالى: ((كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا هو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، فإن كان احد المعنيين اظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفي.
وإن استويا، والاستعمال فيهما حقيقة، لكن في احدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفي الآخر شرعية، فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على أرادة اللغوية، كمال في : } وصل عليهم ، إن صلاتك سكن لهم { (1)... ولو كان في أحدهما عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى وان اتفقا في ذلك أيضا، فإن تنافي اجتماعهما ولم يمكن أرادتهما باللفظ الواحد، كالقرء للحيض والطهر، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه، وإن لم يظهر له شئ فهو يتخير في الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكما؟ أو بالأخف؟ أقوال، وان لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك ابلغ في الإعجاز والفصاحة إلا إن دل على أرادة احدهما.
* * *
· منشأ الخطأ في التفسير بالرأي:
يقع الخطأ كثيرا في التفسير من بعض المتصدرين للتفسير بالرأي، الذين عدلوا عن مذاهب الصحابة والتابعين وفسروا بمجرد الرأي والهوى غير مستندين إلى تلك الأصول التي قدمنا أنها أول شئ يجب على المفسر أن يعتمد عليه ولا متذرعين بتلك العلوم التي هي في الواقع أدوات لفهم كتاب الله والكشف عن أسراره ومعانيه.
ونرى هنا أن نذكر منشأ هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من طوائف المفسرين فنقول:
يرجع الخطأ في التفسير بالرأي غالبا، إلى جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فان الكتب التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا غير ممزوج بغيره، كتفسير عبد الرزاق وعبد بن حميد، وغيرهما، لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين، بخلاف الكتب التي جدت بعد ذلك فإن كثيرا منها، كتفاسير المعتزلة والشيعة مليئة بأخطاء لا تغتفر حملهم على ارتكابها نصرة المذهب والدفاع عن العقيدة.
أما هاتان الجهتان اللتان يرجع إليهما الخطأ في الغالب فهما ما يأتي:
الجهة الأولى: أن يعتقد المفسر معنى من المعاني، ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن على ذلك المعنى الذي يعتقده.
الجهة الثانية: أن يفسر معنى القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، وذلك بدون نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به.
فالجهة الأولى مراعى فيها المعنى الذي يعتقده المفسر من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
والجهة الثانية: مراعى فيها مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به والمخاطب، وسياق الكلام.
ثم إن الخطأ الذي يرجع إلى الجهة الأولى يقع على أربع صور:
الصورة الأولى: أن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته صوابا، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يراد منه، وهو مع ذلك لا ينفي المعنى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعا في الدليل لا في المدلول، وهذه الصورة تنطبق على كثير من تفاسير الصوفية والوعاظ الذين يفسرون القرآن بمعان صحيحة في ذاتها ولكنها غير مرادة، ومع ذلك فهم يقولون بظاهر المعنى، وذلك مثل كثير مما ذكره غير مراده ، ومع ذلك فهم يقولون بظاهر المعنى، وذلك مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير، فمثلا عندما عرض لقوله تعالى في الآية: (66) من سورة النساء: } ولو إنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم {.. الآية، نجده يقول ما نصه: اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم أي اخرجوا حب الدنيا من قلوبكم .. الخ.(1)
الصورة الثانية: أن يكون المعنى الذي يريد نفيه أو إثباته صوابا فمراعاة لها المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويراد به، ويحمله على ما يريده هو، وعلى هذا يكون الخطأ واقعا في الدليل لا في المدلول أيضا، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير بعض المتصوفة الذين يفسرون القرآن بمعان أشارية صحيحة في حد ذاتها، ومع ذلك فأنهم يقولون: إن المعاني الظاهرة غير مرادة، وتفسير هؤلاء اقرب ما يكون إلى تفسير الباطنية، ومن ذلك ما فسر به سهل التستري قوله تعالى في الآية (35) من سورة البقرة: } ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين { .. حيث يقول ما نصه: لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشئ هو غيره الخ(2).
الصورة الثالثة: أن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يراد منه، وهو مع ذلك لا ينفي الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعا في الدليل والمدلول معا، وهذه الصورة تنطبق على ما ذكره بعض المتصوفة من المعاني الباطلة، وذلك كالتفسير المبنى على القول بوحدة الوجود، كما جاء في التفسير المنسوب لابن عربي عندما عرض لقوله تعالى في الآية: (8) من سورة المزمل: } واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا { .. من قوله في تفسيرها: واذكر اسم ربك الذي هو أنت، أي اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله ..الخ(3).
الصورة الرابعة: أن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويراد به، ويحمله على ذلك الخطأ دون الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ في الدليل والمدلول معا، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير أهل البدع، والمذاهب الباطلة، فتارة يلوون لفظ القرآن عن ظاهره المراد إلى معنى ليس في اللفظ أي دلالة عليه، كتفسير بعض غلاة الشيعة الجبت والطاغوت بأبي بكر وعمر، وتارة يحتالون على صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى فيه نكلف غير مقبول، وذلك إذا أحسوا أن اللفظ القرآني يصادم مذهبهم الباطل، كما فعل بعض المعتزلة ففسر لفظ ((إلى)) في قوله تعالى في الآيتين "22،23" من سورة القيامة: } وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة { .. بالنعمة، ذهابا منهم إلى أن "إلى" واحد الآلاء، بمعنى النعم، فيكون المعنى: ناظرة نعمة ربها، على التقديم والتأخير، وذلك كله ليصرف الآية عما تدل عليه من رؤية الله في الآخرة.
وأما الخطأ الذي يرجع إلى الجهة الثانية فهو يقع على صورتين.
الصورة الأولى: أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي ذكره المفسر لغة، ولكنه غير مراد، وذلك كاللفظ الذي يطلق في اللغة على معنيين أو أكثر، والمراد منه واحد بعينه، فيأتي المفسر فيحمله على معنى آخر من معانيه غير المعنى المراد، وذلك كلفظ ((امة)) فأنه يطلق على معان، منها: الجماعة، والطريقة المسلوكة في الدين، والرجل الجامع لصفات الخير، فحمله على غير معنى الطريقة المسلوكة في الدين في قوله تعالى في الآية "22" من سورة الزخرف: } إنا وجدنا آباءنا على امة { .. غير صحيح وإن احتمله اللفظ لغة.
الصورة الثانية : أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى بعينه، ولكنه غير مراد في الآية، وإنما المراد بمعنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلا، فيخطئ المفسر في تعيين المعنى المراد، لأنه اكتفى بظاهر اللغة ، فشرح اللفظ على معناه الوضعي، وذلك كتفسير لفظ ((مبصرة)) في قوله تعالى في الآية (59) من سورة الإسراء : } وآتينا ثمود الناقة مبصرة { .. بجعل مبصرة من الإبصار بالعين على أنها حال من الناقة، وهذا خلاف المراد، إذ المراد: آية واضحة.
* * *
· التعارض بين التفسير المأثور والتفسير بالرأي:
قلنا أن التفسير بالرأي قسمان: قسم مذموم غير مقبول، وقسم ممدوح ومقبول، أما القسم المذموم فلا يعقل وجود تعارض بينه وبين المأثور، لأنه ساقط من أول الأمر، وخارج عن محيط التفسير بمعناه الصحيح.
وأما التفسير بالرأي المحمود، فهذا هو الذي يعقل التعارض بينه وبين التفسير المأثور، وهذا هو الذي نريد أن نتكلم فيه ونعرض له بالبحث والبيان، غير أنه يتحتم علينا ـ ليكون الكلام على بصيرة ـ أن نعرض لبيان معنى هذا التعارض فنقول:
التعارض بين التفسير العقلي والتفسير المأثور معناه التقابل والتنافي بينهما وذلك بأن يدل احدهما على إثبات أمر مثلا، والآخر يدل على نفيه، بحيث لا يمكن اجتماعهما بحال من الأحوال، فكأن كلا منهما وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه، وأما إذا وجدت المغايرة بينهما بدون منافاة وأمكن الجمع، فلا يسمى ذلك تعارضا، وذلك كتفسيرهم ((الصراط المستقيم)) بالقرآن، وبالإسلام، وبطريق العبودية وبطاعة الله ورسوله، فهذه المعاني وان تغايرت غير متنافية ولا متناقضة لأن طريق الإسلام هو طريق القرآن وهو طريق العبودية وهو طاعة الله ورسوله ومثلا تفسيرهم لقوله تعالى: } فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات { (1).. قيل فيه: السابق هو الذي يصلي بعد فواته، وقيل: السابق من يؤدي الزكاة المفروضة مع الصدقة والمقتصد من يؤدي الزكاة المفروضة وحدها، والظالم لنفسه من يمنع الزكاة ولا يتصدق، وغير خاف أنه لا تنافي بين هذين التفسيرين وان تغايرا، لأن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يتناول من يفعل الواجبات ويتقرب بعد ذلك بزيادة الحسنات، فكل ذكر فردا العام على سبيل التمثيل لا الحصر.
هذا وإن الصور العقلية التي يحصل فيها التعارض بين التفسير العقلي والتفسير النقلي هي ما يأتي:
أولا: أن يكون العقلي قطعيا والنقلي قطعيا كذلك.
ثانيا: أن يكون احدهما قطعيا والآخر ظنيا.
ثالثا: أن يكون احدهما ظنيا والآخر ظنيا كذلك.
أما الصورة الأولى، ففرضية، لأنه لا يعقل تعارض بين قطعي وقطعي، ومن المحال أن يتناقض الشرع مع العقل.
وأما الصورة الثانية: فالقطعي منهما مقدم على الظني إذا تعذر الجمع ولم يمكن التوفيق، أخذا بالأرجح وعملا بالأقوى.
وأما الصورة الثالثة: فإن أمكن الجمع بين العقلي والنقلي وجب حمل النظم الكريم عليهما، وان تعذر الجمع، قدم التفسير المأثور عن النبي r إن ثبت من طريق صحيح، وكذا يقدم ما صح عن الصحابة لأن ما يصح نسبته إلى الصحابة في التفسير، النفس إليه أميل، لاحتمال سمعاه من الرسول r، ولما امتازوا به من الفهم الصحيح والعمل الصالح ولما اختصوا به من مشاهدة التنزيل.
وأما ما يؤثر عن التابعين ففيه التفصيل، وذلك أما أن يكون التابعي معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب أو لا. فإن عرف بالأخذ عن أهل الكتاب قدم التفسير العقلي، وإن لم يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب وتعارض ما جاء عنه مع التفسير العقلي ـ كما هو الفرض ـ فحينئذ نلجأ إلى الترجيح فإن تأيد احدهما بسمع أو استدلال رجحناه على الأخر، وإن اشتبهت القرائن، وتعارضت الأدلة والشواهد، توقفنا في الأمر، فنؤمن بمراد الله تعالى، ولا نتهجم على تعيينه، وينزل ذلك منزلة المجمل قبل تفصيله والمتشابه قبل تبيينه.
وبعد.. فهذا هو التفسير العقلي بقسميه وهذه هي نظرات العلماء إليه، وتلك هي حقيقة الخلاف، ثم هذه هي البحوث التي تتعلق به تعلقا قويا وتتصل به اتصالا وثيقا، وارى بعد ذلك أن أتكلم عن أهم كتب التفسير بالرأي الجائز وأشهرها، متعرضا لنبذة قصيرة عن كل مؤلف، تلقي لنا ضوءا على شخصيته الذاتية والعلمية، ملتزما بيان المسلك الذي سلكه كل منهم في تفسيره، وطريقته التي جرى عليها وامتاز بها، بما يظهر لي من ذلك أثناء قراءتي في هذه الكتب، مستعينا في ذلك بما اظفر به من مقدمات قدم بها أصحاب هذه الكتب لكتبهم، ثم بعد الفراغ من ذلك يكون لنا كلام آخر عن موقف بعض الفرق من التفسير، وعن أشهر مؤلفاتهم فيه، وهي لا تكاد تخرج عن دائرة التفسير بالرأي المذموم.
* * *
الفصل الثالث
أهم كتب التفسير بالرأي الجائز
· تمهيد:
ابتدأ عهد التدوين من قديم، وظفر التفسير بالتدوين كغيره من العلوم فألفت فيه كتب اختلفت في منهجها حسب اختلاف مشارب مؤلفيها، وظفرت هذه الناحية من التفسير ـ ناحية التفسير بالرأي الجائز ـ بكثرة زاخرة من الكتب المؤلفة، كثرة تضخمت على مر العصور وكر الدهور، ففي كل عصر يجد جديد من الكتب المؤلفة في التفسير بالرأي الجائز، ثم تنضم إلى ما سبق من ذلك، حتى ازدحمت بها المكتبة الإسلامية على اتساعها وطول عهدها.
ولكن هل احتفظت لنا المكتبة الإسلامية بكل هذه الكتب؟ أو عفى رسمها وذهب أثرها؟ لا ..لا هذا، ولا ذاك، بل احتفظت لنا ببعضها، وذهب بعضها الآخر بتقادم الزمن عليه، ومع هذا، فإن القصور المكتبي، حال بيننا وبين الاطلاع على جميع ما خلفته لنا المكتبة الإسلامية العامة.. لهذا ولعدم القدرة على الاطلاع على كل ما يوجد من هذه الكتب واستيعابه بالبحث والدراسة، اكتفى بأن أتعرض لبعض هذه الكتب على ضوء المنهج الذي بينته، ولعل في ذلك غنى عن بعضها الآخر، الذي حال بيني وبينه القصور المكتبي تارة، والقصور الزمني تارة أخرى.
هذا، ولا يفوتني أن أنبه إلى أن هذه الكتب التي وقع عليها اختياري يتجه كل منها إلى اتجاه معين، وتغب عليه ناحية خاصة من نواحي التفسير وألوانه، فمنها ما تغلب عليه الصناعة النحوية ومنها ما تغلب عليه النزعة الفلسفية والكلامية، ومنها ما تطغى فيه الناحية القصصية والإسرائيلية، ومنها غير ذلك، ولكن الجميع ينضم تحت شئ واحد هو التفسير بالرأي الجائز، فلا على أذن إن كنت قد جمعت بين هذه الكتب المختلفة المنازع والاتجاهات، وهذا أمر اعتباري لا اقل ولا أكثر.
أما هذه الكتب التي وقع عليها اختياري، فهي ما يأتي:
1. مفاتيح الغيب : للفخر الرازي
2. أنوار التنزيل وأسرار التأويل : للبيضاوي
3. مدارك التنزيل وحقائق التأويل : للنسفي
4. لباب التأويل في معاني التنزيل : للخازن
5. البحر المحيط : لأبي حيان.
6. غرائب القرآن ورغائب الفرقان : للنيسابوري
7. تفسير الجلالين : للجلال المحلي، والجلال السيوطي.
8. السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير. : للخطيب الشربيني
9. إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم : لأبي السعود.
10. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني :للآلوسي.
هذه هي الكتب التي وقع عليها اختياري، وسأتكلم عنها على حسب هذا الترتيب، فأقول وباله التوفيق:
1- مفاتيح الغيب - للرازي
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو عبدالله ، محمد بن عمر بن الحسين ابن الحسن بن علي، التميمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، الملقب بفخر الدين، والمعروف بابن الخطيب الشافعي، المولود سنة 544هـ (أربع وأربعين وخمسمائة من الهجرة). كان رحمه الله فريد عصره ومتكلم زمانه جمع كثيرا من العلوم ونبغ فيها ، فكان إماما في التفسير والكلام والعلوم العقلية وعلوم اللغة ولقد اكسبه نبوغه العلمي شهرة عظيمة، فكان العلماء يقصدونه من البلاد، ويشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار، وقد اخذ العلم عن والده ضياء الدين المعروف بخطيب الري، وعن الكمال السمعاني، والمجد الجيلي، وكثير من العلماء الذين عاصرهم ولقيهم، وله فوق شهرته العلمية شهرة كبيرة في الوعظ، حتى قيل أنه كان يعظ باللسان العربي واللسان العجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، ولقد خلف ـ رحمه الله ـ للناس مجموعة كبيرة من تصانيفه في الفنون المختلفة وقد انتشرت هذه التصانيف في البلاد ورزق فيها الحظوة الواسعة، السعادة العظيمة، إذ أن الناس اشتغلوا بها واعرضوا عن كتب المتقدمين ومن أهم هذه المصنفات: تفسيره الكبير، المسمى بمفاتيح الغيب، وهو ما نحن بصدده الآن وله تفسير سورة الفاتحة في مجلد واحد، ولعله هو الموجود بأول تفسيره ((مفاتيح الغيب)) وله في علم الكلام : المطالب العالية، وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان، وله في أصول الفقه: المحصول، وفي الحكمة: الملخص، وشرح الإشارات لابن سينا، وشرح عيون الحكمة، وفي الطلسمات: السر المكنون، ويقال أنه شرح المفصل في النحو للزمخشري، وشرح الوجيز في الفقه للغزالي ..وغير هذا كثير من مصنفاته، التي يتجلى فيها علم الرجل الواسع الغزير.
هذا، وقد كانت وفاة الرازي ـ رحمه الله ـ سنة 606هـ (ست وستمائة من الهجرة) بالري، ويقال في سبب وفاته: أنه كان بينه وبين الكرامية خلال كبير وجدل في أمور العقيدة، فكان ينال منهم وينالون منه سبا وتكفيرا وأخيرا سموه فمات على إثر ذلك واستراحوا منه(1).
· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير في ثماني مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم ويقول ابن قاضي شهبة: أنه ـ أي الفخر الرازي ـ لم يتمه(1) كما يقول ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان(2)، إذن فمن الذي أكمل هذا التفسير؟ وإلى أي موضع من القرآن وصل الفخر الرازي في تفسيره؟
الحق أن هذه مشكلة لم نوفق إلى حلقها حلا حاسما، لتضارب أقوال العلماء في هذا الموضوع، فابن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، يقول: ((الذي أكمل تفسير فخر الدين الرازي هو احمد بن محمد بن أبي الحزم مكي نجم الدين المخزومي القمولي مات سنة 727هـ (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة) وهو مصري))(3).
وصاحب كشف الظنون يقول: ((وصنف الشيخ نجم الدين احمد بن محمد القوملي تكملة له وتوفى سنة 727هـ وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخويي الدمشقي، كمل ما نقص منه أيضا، وتوفى سنة 639هـ (تسع وثلاثين وستمائة))(4).
فأنت ترى أن ابن حجر يذكر أن الذي أتم تفسير الفخر هو نجم الدين القمولي، وصاحب كشف الظنون يجعل لشهاب الدين الخويي مشاركة على وجه ما في هذه التكملة، وان كانا يتفقان على أن الرازي لم يتم تفسيره.
وأما إلى أي موضع وصل الفخر في تفسيره؟ فهذه كالأولى أيضا ذلك لأنا وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه: ((الذي رأيته بخط السيد مرتضى نقلا عن شرح الشفا للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء))(5) أ هـ.
وقد وجدت في أثناء قراءتي في هذا التفسير عند قوله تعالى في الآية (24) من سورة الواقعة: } جزاءا بما كانوا يعملون { .. هذه العبارة ((المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها ..الخ))(6).
وهذه العبارة تدل على أن الإمام فخر الدين، لم يصل في تفسيره إلى هذه السورة.
كما وجدت عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (6) من سورة المائدة: }
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة { .. الآية أنه تعرض لموضوع النية في الوضوء، واستشهد على اشتراط النية فيه بقوله تعالى في الآية (5) من سورة البينة : } وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين {.. وبين أن الإخلاص عبارة عن النية، ثم قال : ((وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى : } وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين { فليرجع إليه في طلب زيادة الإتقان))(1) أ هـ وهذه العبارة تشعر بأن الفخر الرازي فسر سورة البينة، أي أنه وصل إليها في تفسيره، وهذا طبعا بحسب ظاهر العبارة المجرد عن كل شئ.
والذي استطيع أن أقوله كحل لهذا الاضطراب: هو أن الإمام فخر الدين كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء فأتى بعد شهاب الدين الخويي، فشرع في تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقى منه، كما يجوز أن يكون الخويي أكمله إلى النهاية والقمولي كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخويي، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب كشف الظنون.
وأما إحالة الفخر على ما كتبه في سورة البينة، فهذا ليس بصريح في أنه وصل إليها في تفسيره إذ لعله كتب تفسيرا مستقلا لسورة البينة أو لهذه الآية وحدها فهو يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.
أقول هذا واعتقد أنه ليس حلا حاسما لهذا الاضطراب وإنما هو توفيق يقوم على الظن، والظن يخطئ ويصيب.
ثم أن القارئ في هذا التفسير، لا يكاد يلحظ فيه تفاوتا في المنهج والمسلك بل يجري الكتاب من أوله إلى أخره على نمط واحد، وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يميز بين الأصل والتكملة، ولا يتمكن من الوقوف على حقيقة المقدار الذي كتبه الفخر، والمقدار الذي كتبه صاحب التكملة.
هذا، وان تفسير الفخر الرازي ليحظى بشهرة واسعة بين العلماء ن وذلك لأنه يمتاز عن غيره من كتب التفسير، بالأبحاث الفياضة الواسعة، في نواح شتى من العلم ولهذا يصفه ابن خلكان فيقول: ((أنه ـ أي الفخر الرازي ـ جمع فيه كل غريب وغريبة))(2).
· اهتمام الفخر الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره:
وقد قرأت في هذا التفسير، فوجدت أنه يمتاز بذكر المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض، وبين السور بعضها مع بعض، وهو لا يكتفي بذكر مناسبة واحدة بل كثيرا ما يذكر أكثر من مناسبة.
* * *
· اهتمامه بالعلوم الرياضية والفلسفية:
كما أنه يكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية، وغيرها من العلوم الحادثة في الملة، على ما كانت عليه في عهده، كالهيئة الفلكية وغيرها، كما أنه يعرض كثيرا لأقوال الفلاسفة بالرد والتفنيد، وان كان يصوغ أدلته في مباحث الإلهيات على نمط استدلالاتهم العقلية، ولكن بما يتفق ومذهب أهل السنة.
* * *
· موقفه من المعتزلة:
ثم أنه ـ كسني يرى ما يراه أهل السنة، ويعتقد بكل ما يقررونه من مسائل علم الكلام ـ لا يدع فرصة تمر دون أن يعرض لمذهب المعتزلة بذكر أقوالهم والرد عليها، ردا لا يراه البعض كافيا ولا شافيا.
فهذا هو الحافظ ابن حجر يقول عنه في لسان الميزان ((وكان يعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلها، حتى قال بعض المغاربة: ((يورد الشبه نقدا ويحلها نسيئة))(1) ا هـ ، وقال ابن حجر أيضا في لسان الميزان ورأيت في الإكسير في علم التفسير للنجم الطوفي ما ملخصه: ما رأيت في التفاسير اجمع لغالب علم التفسير من القرطبي، ومن تفسير الإمام فخر الدين إلا أنه كثير العيوب فحدثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمياحي المغربي، أنه صنف كتاب المأخذ في مجلدين بين فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيرا ويقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية من الوهاء، قال الطوفي: ولعمري، إن هذا دأبه في كتبه الكلامية والحكمة، حتى اتهمه بعض الناس ولكنه خلاف ظاهر حاله، لأنه لو كان اختار قولا أو مذهبا ما كان عنده من يخاف منه حتى يستر عنه، ولعل سببه أنه كان يستفرغ أقوالا في تقرير دليل الخصم، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده شئ من القوى ولا شك أن القوى النفسانية تابعة للقوى البدنية، وقد صرح في مقدمة نهاية العقول: أنه مقرر مذهبه خصمه تقريرا لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة على ذلك))(1) أ هـ.
* * *
· موقفه من علوم الفقه والأصول والنحو والبلاغة:
ثم إن الفخر الرازي لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه لمذهب الشافعي ـ الذي يقلده ـ بالأدلة والبراهين.
كذلك نجده يستطرد لذكر المسائل الأصولية، والمسائل النحوية، والبلاغية، وإن كان لا يتوسع في ذلك توسعة في مسائل العلوم الكونية والرياضية.
وبالجملة فالكتاب أشبه ما يكون بموسوعة في علم الكلام، وفي علوم الكون والطبيعة، إذ أن هذه الناحية، هي التي غلبت عليه حتى كادت تقلل من أهمية الكتاب كتفسير للقرآن الكريم.
ومن اجل ذلك قال صاحب كشف الظنون: ((إن الإمام فخر الدين الرازي ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شئ إلى شئ حتى يقضي الناظر العجب)) ونقل عن أبي حيان أنه قال في البحر المحيط : ((جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شئ إلا التفسير))(2).
ويظهر لنا أن الإمام فخر الدين الرازي كان مولعا بكثرة الاستنباطات والاستطرادات في تفسيره، ما دام يستطيع أن يجد صلة ما بين المستنبط أو المستطرد إليه وبين اللفظ القرآني، والذي يقرأ مقدمة تفسيره لا يسعه إلا أن يحكم على الفخر هذا الحكم، وذلك حيث يقول: ((اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات، أن هذه السورة الكريمة ـ يريد الفاتحة ـ يمكن أن يستنبط من فوائده ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحساد، وقوم من أهل الجهل والغي والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعنى، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة، المعروف بداية قدس نفسه وروح رمسه، وطرف منها مما دار بخلدي وسمحت به ذات يدي غير جازم بأنه المراد من الآية ،بل خائف من أن يكون ذلك جرأة مني وخصوصا فيما لا يعنيني، وإنما شجعني على ذلك سائر الأئمة الذين اشتهروا بالذوق والوجدان وجمعوا بين العرفان والإيمان والإتقان في معنى القرآن الذي هو باب واسع يطمع في تصنيفه كل طامع، فإن أصبت فيها، وإن أخطأت فعلى الإمام ما سها، والعذر مقبول عند أهل الكرم والنهي، والله المستعان لنا ولهم في مظان الخلل والزلل، وعلى رحمته التكلان في محال الخطأ والخطل، فعلى المرء أن يبذل وسعه لإدراك الحق، ثم الله معين لإرادة الصواب. ومعين لإلهام الصدق.
وكذا الكلام في بيان الرباطات والمناسبات بين السور والآيات وفي أنواع التكريرات وأصناف المشتبهات فإن للخواطر والظنون فيها مجالا وللناس الأكياس في استنباط الوجوه والنسب هناك مقالا)) ثم مضى فقال: ((واني لم أمل في هذا الإملاء إلا إلى مذهب أهل السنة والجماعة فبينت أصولهم ووجوه استدلالاتهم بها وما ورد عليها من الاعتراضات والأجوبة عنها.
وأما في الفروع فذكرت استدلال كل طائفة بالآية على مذهبه، من غير تعصب ومراء وجدال وهراء)) ثم مضى فقال : ((ولقد وقفت لإتمام هذا الكتاب في مدة خلافة على t وكنا نقدر إتمامه في مدة خلافة الخلفاء الراشدين وهي ثلاثون سنة، ولو لم يكن ما أتفق في أثناء التفسير من وجود الأسفار الشاعسة وعدم الأسفار النافعة ومن غموم لا يعد عديدها، وهموم لا ينادي وليدها لكان يمكن إتمامه في مدة خلافة أبي بكر، كما وقع لجار الله العلامة))(1). أ هـ
هذا، وقد نوه صاحب روضات الجنات بمكانة هذا التفسير فقال: ((وتفسيره ـ يريد النيسابوري ـ من أحسن شروح كتاب الله المجيد، واجمعها للفوائد اللفظية والمعنوية وأحوزها للفوائد القشرية واللبية، وهو قريب من تفسير مجمع البيان كما وكيفا، وسمة وترتيبا، بزيادة أحكام الأوقاف في أوائل تفسير الآي، ومراتب التأويل في آخره، والإشارة إلى جملة من دقائق نكات العربية في البين))(2) ا هـ.
والكتاب مطبوع على هامش تفسير ابن جرير الطبري ومتداول بين أهل العلم.
* * *
7- تفسير الجلالين – لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي
· التعريف بمؤلفي هذا التفسير:
ألف هذا التفسير الإمامان الجليلان، جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي، أما جلال الدين السيوطي فقد سبق التعريف به عند الكلام عن تفسيره المسمى بالدر المنثور.
وأما جلال الدين المحلي، فهو جلال الدين محمد بن احمد بن محمد بن إبراهيم المحلي الشافعي، تفتازاني العرب، الإمام العلامة، قال في حسن المحاضرة: ((ولد بمصر سنة 791هـ (إحدى وتسعين وسبعمائة)، واشتغل وبرع في الفنون فقها، وكلاما، وأصولا، ونحوا ومنطقا، وغيرها وأخذ عن البدر محمود الاقصرائي، والبرهان البيجوري، والشمس البساطي، والعلاء البخاري، وغيرهم وكان علامة آية في الذكاء والفهم حتى كان بعض أهل عصره يقول فيه : إن ذهنه يثقب الماس، وكان هو يقول عن نفسه إن فهمه لا يقبل الخطأ ولم يك يقدر على الحفظ)).
وكان غرة عصره في سلوك طريق السلف على مبلغ عظيم من الصلاح والورع آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وكانوا يأتون إليه فلا يلتفت إليهم ولا يأذن لهم في الدخول عليه وكان حديد الطبع لا يراعي أحدا في القول، وقد عرض عليه القضاء الأكبر فلم يقبله، وولى تدريس الفقه بالمؤيدية والبرقوقية، وسمع من جماعة، وكان مع هذا متقشفا في معيشته يتكسب بالتجارة، وقد ألف كتبا كثيرة تشد إليها الرحال وهي غاية في الاختصار، والتحرير والتنقيح، وسلامة العبارة وحسن المزج والحل، وقد اقبل الناس على مؤلفاته وتلقوها بالقبول، وتداولوها في دراساتهم، فمن مؤلفاته: شرح جمع الجوامع في الأصول وشرح المنهاج في فقه الشافعية وشرح الورقات في الأصول، ومنها هذا التفسير الذي نحن بصدده.
توفى رحمه الله في أول يوم من سنة 864هـ (أربع ستين وثمانمائة من الهجرة).
* * *
· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفيه فيه:
اشترك في هذا التفسير ـ كما قلنا ـ الإمامان الجليلان، جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي.
أما جلال الدين المحلي، فقد ابتدأ تفسيره من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بتفسير الفاتحة، وبعد أن أتمها اخترمته المنية فلم يفسر ما بعدها.
وأما جلال الدين السيوطي، فقد جاء بعد الجلال المحلي فكمل تفسيره، فابتدأ بتفسير سورة البقرة، وانتهى عند آخر سورة الإسراء، ووضع تفسير الفاتحة في آخر تفسير الجلال المحلي لتكون ملحقة به.
هذا هو الواقع ولا أظن صاحب كشف الظنون مصيبا حيث يقول عند الكلام على تفسير الجلالين ما نصه ((تفسير الجلالين من أوله إلى آخر سورة الإسراء للعلامة جلال الدين محمد بن احمد المحلي الشافعي المتوفى سنة 864هـ ، (أربع وستون وثمانمائة)، ولما مات كمله الشيخ المتبحر جمال الدين عبد الرحمن ابن أبو بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ (إحدى عشر وتسعمائة) وحيث يقول: بعد ذلك بقليل وكأن المحلى لم يفسر الفاتحة وفسرها السيوطي تفسيرا مناسبا(1).
نعم، لا أظن صاحب كشف الظنون مصيبا في ذلك لأن السيوطي في مقدمة هذا التفسير وقبل الكلام على سورة البقرة، يقول بعد الدباجة ما نصه: ((هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الإمام العلامة المحقق، جلال الدين، محمد ابن احمد، المحلى الشافعي رحمه الله، وتميم ما فاته وهو ـ يريد ما فات بجلال المحلى وقام هو بتفسيره ـ من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء )).
ويقول في آخر سورة الإسراء ما نصه: ((قال مؤلفه: هذا ما حملت به تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الشيخ الإمام، العالم العلامة المحقق، جلال الدين المحلى الشافعي t))(2)
هذا من ناحية تعيين القدر الذي فسره كل منهما. وأما من ناحية أخرى وهي ادعاء صاحب كشف الظنون أن المحلى لم يفسر الفاتحة، وإنما الذي فسرها هو السيوطي، فهي أيضا دعوة ليظهر لنا أنها غير صحيحة، وذلك بما يقوله الشيخ سليمان الجمل في مقدمة حاشيته على هذا التفسير (ج1 ص 7): ((وأما الفاتحة ففسرها المحلى، فجعلها السيوطي في آخر تفسير المحلى لتكون منضمة لتفسيره، وابتدأ هو من أول سورة البقرة" ا هـ.. ـ ولقوله في الحاشية نفسها (ج4 ص626) عند نهاية ما كتبه على تفسير سورة الفاتحة ((أنه ـ أي الجلال المحلي ـ كان قد شرع في تفسير النصف الأول، وأنه ابتدأ بالفاتحة وأنه اخترمته المنية بعد الفراغ منها وقبل الشروع في البقرة وما بعدها)) ا هـ
هذا، وقد قال صاحب كشف الظنون بعد ما نقلناه عنه آنفا بقليل: ((ولم يتكلم الشيخان على البسملة، فتكلم عليها بأقل مما ينبغي من الكلام بعض العلماء من زبيد وكتب ذلك حاشية بالهامش، وهذا صحيح، فإن الجلال المحلي لم يتكلم عن تفسيره البسملة مطلقا في الجزء الذي فسره، لا في أول سورة الكهف، ولا في أول فاتحة الكتاب، كذلك الجلال السيوطي، لم يتكلم عن تفسيرها مطلقا في الجزء الذي فسره.
وبعد هذا، فالجلال المحلي، فسر الجزء الذي فسره بعبارة موجزة محررة، في غاية الحسن ونهاية الدقة، والجلال السيوطي تابعه على ذلك ولم يتوسع، لأنه التزم بأن يتم الكتاب على النمط الذي جرى عليه الجلال المحلي، كما أوضح هو ذلك في مقدمته، وذكر في خاتمة سورة الإسراء أنه ألف الجزء الذي ألفه في قدر ميعاد الكليم، وهو أربعون يوما، كما ذكر في هذا الموضع نفسه: أنه استفاد في تفسيره من تفسير الجلال المحلي، وأنه اعتمد عليه في الآي المتشابهة، كما أنه اعترف ـ جازما ـ بأن الذي وضعه الجلال المحلي في قطعته أحسن مما وضعه هو بطبقات كثيرة))(1).
وعلى الجملة، فالسيوطي قد نهج في تفسيره منهج المحلي ((من ذكر ما يفهم من كلام الله تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وأعراب ما يحتاج إليه، والتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة، على وجه لطيف، وتعبير وجيز وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية(2).
ولا شك أن الذي يقرأ تفسير الجلالين، لا يكاد يلمس فرقا واضحا بين طريقة الشيخين فيما فسراه، ولا يكاد يحس بمخالفة بينهما في ناحية من نواحي التفسير المختلفة، اللهم إلا في مواضع قليلة لا تبلغ العشرة كما قيل.
فمن هذه المواضع أن المحلي في سورة (ص) فسر الروح بأنها جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه، والسيوطي تابعه على هذا التفسير في سورة الحجر ثم ضرب ثم ضرب عليه قوله تعالى في الآية (85) من سورة الإسراء: } ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا { فهي صريحة أو كالصريحة في أن الروح من علم الله تعالى، فالإمساك عن تعريفها أولى.
ومنها: أن المحلى قال في سورة الحج: ((الصابئون : فرقة من اليهود))، والسيوطي في سورة البقرة تابعه على ذلك وزاد عليه: ((أو النصارى)) بيانا منه لقول ثان(1).... وهكذا تلمح الخلاف بين الشيخين قليلا نادرا.
ثم إن هذا التفسير، غاية في الاختصار، والإيجاز، حتى لقد ذكر صاح كشف الظنون عن بعض علماء اليمن أنه قال: ((عددت حروف القرآن وتفسيره للجلالين فوجدتهما متساويين إلى سورة المزمل، ومن سورة المدثر التفسير زائد على القرآن، فعلى هذا يجوز حمله بغير الوضوء))(2) ا هـ
ومع هذا الاختصار، فالكتاب قيم في بابه، وهو من أعظم التفاسير انتشارا، وأكثرها تداولا ونفعا، وقد طبع مرارا كثيرة، وظفر بكثير من تعاليق العلماء وحواشيهم عليه، ومن أهم هذه الحواشي: حاشية الجمل وحاشية الصاوي، وهما متداولتان بين أهل العلم.
وذكر صاحب كشف الظنون، أن عليه حاشية لشمس الدين محمد ابن العلقمي سماها، قبس النيرين، فرغ من تأليفها سنة 953هـ (اثنين وخمسين وتسعمائة)، وحاشية مسماة بالجمالين، لمولانا الفاضل نور الدين على بن سلطان محمد القاري نزيل مكة المكرمة، والمتوفى بها عام 1010هـ (عشر وألف)، وشرح لجلال الدين محمد بن محمد الكرخي، وهو كبير في مجلدات سماه مجمع البحرين ومطلع البدرين، وله حاشية صغرى)) .. ولكن شيئا مما ذكره صاحب كشف الظنون لم يقع تحت أيدينا، ولم نظفر بالاطلاع عليه.
* * *
الدر المنثور ما نصه: ((الكلبي اتهموه بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه في مرضه: كل شئ حدثتكم عن أبي صالح كذب)) ولكن نجد أبا السعود، يخلص من تبعه هذه الروايات التي سردها بقوله أخيرا ((والله تعالى اعلم)) وهذا يشعر بأنه يشك في صدقها وصحتها.
* * *
· إقلاله من ذكر المسائل الفقهية:
كذلك نجد أبا السعود ـ رحمه الله ـ يتعرض في تفسيره لبعض المسائل الفقهية، ولكنه مقل جدا، ولا يكاد يدخل في المناقشات الفقهية والأدلة المذهبية، بل نجده يسرد المذاهب في الآية ولا يزيد على ذلك.
فمثلا عند قوله تعالى في الآية (225) من سورة البقرة: } لا يؤاخذكم الله بالغو في أيمانكم {.. الآية نجده يعرض للخلاف المذهبي في تحديد معنى اليمين اللغو فيقول: ((وقد اختلف فيه، فعندنا هو أن يحلف على شئ يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه، فأنه لا يقصد فيه الكذب، وعند الشافعي ـ رحمه الله ـ هو قول العرب لا والله وبلى والله، مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال)) ولا يزيد على ذلك بل يمضي فينزل الآية على قول الحنفية.
* * *
· تناوله لما تحتمله الآيات من وجوه الإعراب:
كما نلحظ عليه أنه يعرض أحيانا للناحية النحوية إذا كانت الآية تحتمل أوجها من الإعراب، وينزل الآية على اختلاف الأعاريب، ويرجح واحدا منها ويدل على رجحانه.
وعلى الجملة فالكتاب دقيق غاية الدقة، بعيد عن خلط التفسير بما لا يتصل به، غير مسرف فيما يضطر إليه من التكلم عن بعض النواحي العلمية وهو مرجع يعتمد عليه كثير ممن جاء بعده من المفسرين وقد طبع هذا التفسير مرارا، وهو يقع في خمسة أجزاء متوسطة الحجم.
* * *
10 – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم
والسبع المثاني - للآلوسي
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو: أبو الثناء، شهاب الدين، السيد محمود أفندي الآلوسي(1) البغدادي، ولد في سنة 1217هـ (سبع عشرة ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية) في جانب الكرخ من بغداد.
كان رحمه الله شيخ العلماء في العراق، وآية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام، جمع كثيرا من العلوم حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول فهامة في الفروع والأصول، محدثا لا يجاري، ومفسرا لكتاب الله لا يباري، اخذ العلم عن فحول العلماء، منهم والده العلامة، والشيخ خالد النقشبندي والشيخ على السويدي، وكان رحمه الله غاية في الحرص على تزايد علمه، وتوفير نصيبه منه، وكان كثيرا ما ينشد:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق
اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس في عدة مدارس، وعندما قلد إفتاء الحنفية، شرع يدرس سائر العلوم في داره الملاصقة لجامع الشيخ عبدالله العاقولي في الرصافة، وقد تتلمذ له واخذ عنه خلق كثير من قاصي البلاد ودانيها، وتخرج عليه جاماعات من الفضلاء من بلاد مختلفة كثيرة، وكان ـ رحمه الله ـ يواسي طلبته من ملبسه ومأكله، ويسكنون البيوت الرفيعة من منزله، حتى صار في العراق العلم المفرد، وانتهت إليه الرياسة لمزيد فضله الذي لا يجحد، وكان نسيج وحده في النثر وقوة التحرير، وغزارة الإملاء وجزالة التعبير وقد أملى كثيرا من الخطب والرسائل والفتاوى والمسائل، ولكن أكثر ذلك ـ على قرب العهد ـ درس وعفت آثاره، ولم تظفر الأيدي إلا بالقليل منه، وكان ذا حافظة عجيبة، وفكرة غريبة، وكثيرا ما كان يقول : ((ما استودعت ذهني شيئا فخانني، ولا دعوت فكري لمعضلة إلا وأجابني)) قلد إفتاء الحنفية في السنة الثامنة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة المحمدية، وقبل ذلك بأشهر ولي أوقاف المدرسة المرجانية إذ كانت مشروطة لأعلم أهل البلد وتحقق لدى الوزير الخطير على رضا باشا، أنه ليس فيها من يدانيه من أحد وفي شوال سنة 1263هـ (ثلاثة وستين ومائتين بعد الألف) انفصل من منصب الإفتاء، وبقى مشتغلا بتفسير القرآن الكريم حتى أتمه، ثم سافر إلى القسطنطينية في السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف، فعرض تفسيره على السلطان عبد المجيد خان، فنال إعجابه ورضاه، ثم رجع منها سنة 1269هـ (تسع وستين ومائتين بعد الألف).
وكان ـ رحمه الله ـ عالما باختلاف المذاهب، مطلعا على الملل والنحل، سلفي الاعتقاد، شافعي المذهب، إلا أنه في كثير من المسائل يقلد الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان t، وكان في آخر أمره يميل إلى الاجتهاد. ولقد خلف ـ رحمه الله ـ للناس ثروة علمية كبيرة ونافعة فمن ذلك تفسيره لكتاب الله وهو الذي نحن بصدده الآن، وحاشيته على القطر، كتب منها في الشباب إلى موضع الحال، وبعد وفاته أتمها ابنه السيد نعمان الآلوسي، وشرح السلم في المنطق، وقد فقد ومنها الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، الأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية، ودرة الغواص في أوهام الخواص، والنفحات القدسية في المباحث الأمامية والفوائد السنية في علم آداب البحث.
وقد توفى رحمه الله في يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1270هـ (سبعين ومائتين بعد الألف من الهجرة)، ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ معروف الكرخي في الكرخ، فرضي الله عنه وأرضاه.
* * *
· التعريف بهذا المفسر وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلفه هذا التفسير في مقدمته أنه منذ عهد الصغر، لم يزل متطلبا لاستكشاف سر كتاب الله المكتوم، مترقبا لارتشاف رحقه المختوم، وأنه طالما فرق نومه لجمع شوارده، وفارق قومه لوصال خرائده، ولا يرفل في مطارف اللهو كما يرفل أقرانه، ولا يهب نفائس الأوقات لخسائس الشهوات كما يفعل إخوانه، وبذلك وفقه الله للوقوف على كثير من حقائقه، وحل وفير من دقائقه، وذكر أنه قبل أن يكمل سنه العشرين، شرع يدفع كثيرا من الإشكالات التي ترد على ظاهر النظم الكريم، ويتجاهر بما لم يظفر به في كتاب من دقائق التفسير ويعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير، وذكر أنه استفاد من علماء عصره، واقتطف من أزهارهم، واقتبس من أنوارهم ، وأودع علمهم صدره، وأفنى في كتابة فوائدهم حبره ... ثم ذكر أنه كثيرا ما خطر له أن يحرر كاتبا يجمع فيه ما عنده من ذلك، وأنه كان يتردد في ذلك، إلى أن رأى في بعض ليالي الجمعة من شهر رجب سنة 1252هـ (اثنتين وخمسين ومائتين بعد الألف من الهجرة)، أن الله جل شأنه أمره بطي السموات والأرض، ورتق فتقهما على الطول والعرض، فرفع يدا إلى السماء، وخفض الأخرى إلى مستقر الماء، ثم انتبه من نومه وهو مستعظم لرؤيته، فجعل يفتش لها عن تعبير، فرأى في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير، فشرع فيه في الليلة السادسة عشرة من شهر شعبان من السنة المذكورة، وكان عمره إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة، وذلك في عهد السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان، وذكر في خاتمته أنه انتهى منه ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 1267هـ (سبع وستين ومائتين بعد الألف)، ولما انتهى منه جعل يفكر ما اسمه؟ وبماذا يدعوه؟ فلم يظهر له اسم تهتش له الضمائر، فعرض الأمر على وزير الوزراء على رضا باشا، فسماه على الفور: ((روح المعاني، في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)).
هذه هي قصة تأليف هذا التفسير، كما ذكرها صاحبه عليه رضوان الله .
وقد ذكروا أن سلوكه في تفسيره هذا كان أمراً عظيما، وسرا من الأسرار غريبا، فإن نهاره كان للإفتاء والتدريس وأوله ليلة لمنادمة مستفيد وجليس، فيكتب بأواخر الليل منه ورقات، فيعطيها صباحا للكتاب الذين وظفهم في داره فلا يكملونها تبييضا إلا في نحو عشر ساعات.
* * *
· مكانة هذا التفسير من التفاسير التي تقدمته:
ثم أن هذا التفسير ـ والحق يقال ـ قد أفرغ فيه مؤلفه وسعه، وبذل مجهوده حتى أخرجه للناس كتابا جامعا لآراء السلف رواية ودراية ن مشتملا على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية، وتفسير أبي حيان، وتفسير الكشاف، وتفسير أبي السعود، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي، وغيرها من كتب التفسير المعتبرة، وهو إذا نقل عن تفسير أبو السعود يقول ـ غالبا ـ قال شيخ الإسلام، وإذا نقل عن تفسير البيضاوي يقول ـ غالبا ـ قال القاضي، وإذا نقل عن تفسير الفخر الرازي يقول ـ غالبا ـ قال الإمام. وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصب نفسه حكما عدلا بينها، ويجعل من نفسه نقادا مدققا، ثم يبدي رأيه حرا فيما ينقل، فتراه كثيرا ما يتعرض على ما ينقله عن أبي السعود، أو عن البيضاوي ، أو عن أبي حيان، أو عن غيرهم، كما تراه يتعقب الفخر الرازي في كثير من المسائل، ويرد عليه على الخصوص في بعض المسائل الفقهية، انتصارا منه لمذهب أبي حنيفة، ثم أنه إذا استصوب رأيا لبعض من ينقل عنهم، انتصر له ورجحه على ما عداه.
* * *
· موقف الآلوسي من المخالفين لأهل السنة:
والآلوسي سلفي المذهب سني العقيدة، ولهذا نراه كثيرا ما يفند آراء المعتزلة والشيعة، وغيرهم من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهبه.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (15) من سورة البقرة: } الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون {.. يقول بعد كلام طويل ما نصه : ((... وإضافته – أي الطغيان – إليهم، لأنه فعلهم الصادر منهم، بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة. إنما هو بهذا الاعتبار، لا باعتبار المحلية والاتصاف، فأنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد، فأنه اعتبار عليه غبار، بل غبار ليس له اعتبار، فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته))(1).
وانظر إلى ما كتبه قبل ذلك عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (7) من السورة نفسها : } ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم {. تجده يطيل بما لا يتسع لذكره المقام هنا، من بيان إسناد الختم إليه عز وجل على مذهب أهل السنة، ومن ذكر ما ذهب إليه المعتزلة في هذه الآية وما رد به عليهم، وفند به تأويلهم الذي يتفق مع مذهبهم الاعتزالي(2).
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (11) من سورة الجمعة : } وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين {.. يقول ما نصه : ((وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة t، بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم، حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة، ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين، وأفضل من كثير من العبادات، لاسيما مع رسول الله r ، وروى أن ذلك قد وقع مرارا منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله على ذلك بالنار أو نحوها، بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا أن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني ـ والله تعالى اعلم ـ أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه، وأن أريد بها غيرها فليبين وليثبت صحته، واني بذلك ؟ وبالجملة: الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كنت من بعضهم في أوائل أمرهم ـ وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى ـ سفه ظاهر وجهل وافر(1).
* * *
· الآلوسي والمسائل الكونية:
ومما نلاحظه على الآلوسي في تفسيره، أنه يستطرد إلى الكلام في الأمور الكونية، ويذكر كلام أهل الهيئة وأهل الحكمة، ويقر منه ما يرتضيه، ويفند ما لا يرضيه، وإن أردت مثالا جامعا، فارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآيات (40.39.38) من سورة يس: } والشمس تجري لمستقر لها، ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون {(2)..
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (12) من سورة الطلاق } الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن { (3)فسترى منه توسعا في هذه الناحية.
* * *
· كثرة استطراده للمسائل النحوية:
كذلك يستطرد الآلوسي إلى الكلام في الصناعة النحوية، ويتوسع في ذلك أحيانا إلى حد يكاد يخرج به عن وصف كونه مفسرا، ولا أحيلك على نقطة بعينها، فأنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك.
* * *
· موقفه من المسائل الفقهية:
كذلك نجده إذا تكلم عن آيات الأحكام فأنه لا يمر عليها إلا إذا استوفى مذاهب الفقهاء وأدلتهم مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (236) من سورة البقرة: } ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف، حقا على المحسنين {.. يقول ما نصه: وقال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون، وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا: هي واجبة للمطلقات في الآية، مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي t في أحد قوليه: هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى: } وللمطلقات متاع بالمعروف {، لأنه يحمل المطلق على المقيد، قال بالقياس، وجعله مقدما على المفهوم، لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك، بمنع قصر المحسن على المتطوع، بل هو اعم منه ومن القائم بالواجبات، فلا تنافي لوجوب، فلا يكون صارفا للأمر عنه ما انضم إليه من لفظ حقا))(1).
وإذا أردت أن تتأكد من أن الآلوسي غير متعصب لمذهب بعينه فارجع إلى البحث الذي أفاض فيه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (228) من سورة البقرة: } والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قروء { .. الآية ، تجده بعد أن يذكر مذهب الشافعية، ومذهب الحنفية، وأدلة كل منهم، ومناقشاتهم يقول: ((وبالجملة، كلام الشافعية في هذا المقام قوي، كما لا يخفي على من أحاط بأطراف كلامهم، واستقرأ ما قالوه، تأمل ما دفعوا به من أدلة مخالفيهم))(2).
· موقفه من الإسرائيليات :
ومما نلاحظه على الآلوسي أنه شديد النقد للإسرائيليات والأخبار المكذوبة التي حشا بها كثير من المفسرين تفاسيرهم وظنوها صحيحة، مع سخرية منه أحيانا.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (12) من سورة المائدة : } ولقد اخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم أثنى عشر نقيبا)).. نجده يقص علينا قصة عجيبة عن عوج بن عنق، يرويها عن البغوي، ولكنه بعد الفراغ منها يقول ما نصه: ((وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي فتاوى العلامة ابن حجر، قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه، هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام، ولم يسلم من الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا، أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق، وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى، إنما العجب من يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم.. ثم مضى الآلوسي في تفنيد هذه القصة بما حكاه عن غير من تقدم من العلماء الذين استنكروا هذه القصة الخرافية(1).
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (38) من سورة هود : } ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه { .. نجده يروي أخبارا كثيرة في نوع الخشب الذي صنعت منه السفينة، وفي مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، وفي المكان الذي صنعت فيه .. ثم يعقب على كل ذلك بقوله: ((وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها، إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول، أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه، ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، ومن أي خشب صنعها، وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة))(2).
* * *
· تعرضه للقراءات والمناسبات وأسباب النزول:
ثم أن الآلوسي يعرض لذكر القراءات ولكنه لا يتقيد بالمتواتر منها، كما أنه يعني بإظهار وجه المناسبات بين السور كما يعني بذكر المناسبات بين الآيات ويذكر أسباب النزول للآيات التي أنزلت على سبب، وهو كثير الاستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعاني اللغوية.
* * *
· الآلوسي والتفسير الاشاري:
ولم يفت الآلوسي أن يتكلم عن التفسير الاشاري بعد أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، ومن هنا عد بعض العلماء تفسيره هذا في ضمن كتب التفسير الاشاري، كما عد تفسير النيسابوري في ضمنها كذلك، ولكني رأيت أن أجعلهما في عداد كتب التفسير بالرأي المحمود، نظرا إلى أنه لم يكن مقصودهما الأهم هو التفسير الاشاري، بل كان ذلك تابعا ـ كما يبدو ـ لغيره من التفسير الظاهر، وهذه ـ كما قلت من قبل ـ مسألة اعتبارية لا أكثر ولا اقل، وإنما أردت أن أبين جهتي الاعتبار.
وجملة القول، فروح المعاني للعلامة الآلوسي ليس إلا موسوعة تفسيرية قيمة، جمعت جل ما قاله علماء التفسير الذين تقدموا عليه، مع النقد الحر، والترجيح الذي يعتمد على قوة الذهن وصفاء القريحة، وهو وان كان يستطرد إلى نواح علمية مختلفة، مع توسع يكاد يخرجه عن مهمته كمفسر إلا أنه متزن في كل ما يتكلم فيه، مما يشهد له بغزارة العلم على اختلاف نواحيه،وشمول الإحاطة بكل ما يتكلم فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء، أنه سميع مجيب.
وبعد ... فهذه هي أهم كتب التفسير بالرأي الجائز، وهناك كتب أخرى تدخل في هذا النوع من التفسير، ولها أهميتها وقيمتها، كما أن لها شهرتها الواسعة بين أهل العلم الذين يعنون بالتفسير، غير أني أمسكت عنها هنا مخافة التطويل، ولعدم إمكان الحصول على بعضها، واحسب أن في هذا القدر كفاية وغنى عن كتب أخرى كثيرة.
* * *
الفصل الرابع
التفسير بالرأي المذموم أو تفسير الفرق المبتدعة
· تمهيد في بيان نشأة الفرق الإسلامية:
جرى التفسير منذ زمن النبوة إلى زمن أتباع التابعين، على طريقة تكاد تكون واحدة، فخلف كل عصر يحمل التفسير عمن سلف بطريقة الرواية والسماع، وفي كل عصر من هذه العصور، تتجدد نظرات تفسيرية، لم يكن لها وجود قبل ذلك، وهذا راجع إلى أن الناس كلما بعدوا عن عصر النبوة ازدادت نواحي الغموض في التفسير، فكان لابد للتفسير من أن يتضخم كلما مرت عليه السنون.
لم يكن هذا التضخم في الحقيقة إلا محاولات عقلية، ونظرات اجتهادية، قام بها أفراد ممن لهم عناية بهذه الناحية، غير أن هذه الناحية العقلية في التفسير لم تخرج عن قانون اللغة، ولم تتخط حدود الشريعة، بل ظلت محتفظة بصبغتها العقلية والدينية، فلم تتجاوز دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم الذي لا يتفق وقواعد الشرع.
ظل الأمر على ذلك إلى أن قامت الفرق المختلفة، ظهرت المذاهب الدينية المتنوعة، ووجد من العلماء من يحاول نصرة مذهبه والدفاع عن عقيدته بكل وسيلة وحيلة وكان القرآن هو هدفهم الأول الذي يقصدون إليه جميعا، كل يبحث في القرآن ليجد فيه ما يقوي رأيه ويؤيد مذهبه، وكل واجد ما يبحث عنه ولو بطريق إخضاع الآيات القرآنية لمذهبه، والميل بها مع رأيه وهواه، وتأويل ما يصادمه منها تأويلا يجعلها غير منافية لمذهبه ولا متعارضة معه، ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون في حماية عقائدهم، والترويج لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام ا لله على وفق أهوائهم، ومتقضى نزعاتهم ونحلهم!!.
ونحن نعلم بطريق الإجمال ـ وللتفصيل موضع غير هذا ـ أن رسول الله r قال: ((ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، وهي ما أنا عليه وأصحابي)) وقد حقق الله نبوءة رسوله، وصدق قوله فتصدعت الوحدة الإسلامية إلى أحزاب مختلفة، وفرق متنافرة متناحرة، ولم يظهر هذا التفرق بكل ما فيه من خطر على الإسلام والمسلمين إلا في عصر الدولة العباسية، أما قبل ذلك، فقد كان المسلمون يدا واحدة، وكانت عقيدتهم واحدة كذلك، إذا استثنينا ما كان بينهم من المنافقين الذين ينتسبون إلى الإسلام ويضمرون الكفر، وما كان بين علي ومعاوية من خلاف لم يكن له مثل هذا الخطر، وإن كان النواة التي قام عليها التحزب، ونبت عنها التفرق والاختلاف.
بدأ الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ، في أمور اجتهادية لا تصل بأحد منهم إلى درجة الابتداع والكفر، كاختلافهم عند قول النبي r : ((ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي)) حتى قال عمر: إن النبي قد غيبه الوجع، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي r : ((قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع))، وكاختلافهم في موضع دفنه r، أيدفن بمكة، لأنها مولده وبها قبلته ومشاعر الحج؟ ام يدفن بالمدينة، لأنها موضع هجرته، وموطن أهل نصرته؟ ام يدفن ببيت المقدس، لأن بها تربة الأنبياء ومشاهدهم؟، وكالخلاف الذي وقع بينهم في سقيفة بني ساعدة في تولية من يخلف رسول الله r بعد وفاته، وغير ذلك من الخلافات التي وقعت بينهم، ولم يكن لها خطرها الذي ينجم عنه التفرق ووقوع الفتنة والبغضاء بين المسلمين.
ظل الأمر على ذلك إلى زمن عثمان t، وكان ما كان من خروج بعض المسلمين عليه، ومحاصرتهم لداره، وقتلهم له، فعرى المسلمين من ذلك الوقت رجة فكرية عنيفة، طاحت بالروية، وذهبت بكثير من الأفكار مذاهب شتى، فقام قوم يطالبون بدم عثمان، ثم نشبت الحرب بين علي ومعاوية t من اجل الخلافة، وكان لكل منهم شيعة وأنصار يشدون أزره، ويقوون عزمه، وتبع ذلك انشقاق جماعة على كرم الله وجهه، بعد مسألة التحكيم في الخلاف الذي بينه وبين معاوية، في السنة السابعة والثلاثين من الهجرة، فظهرت من ذلك الوقت فرقة الشيعة، وفرقة الخوارج، وفرقة المرجئة(1)، وفرقة أخرى تنحاز لمعاوية، وتؤيد الأمويين على وجه العموم.
ثم اخذ هذا الخلاف والتفرق، يتدرج شيئا فشيئا، ويترقى حينا بعد حين، إلى أن ظهر في أيام المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية، وكان أول من جهر بهذا المذهب ووضع الحجر الأساسي لقيام هذه الفرقة، معبد الجهني الذي اخذ عنه مذهبه غيلان الدمشقي ومن شاكله، وكان ينكر عليهم مذهبهم هذا ما بقى من الصحابة كعبد الله بن عمر، وأبن عباس، وانس، وأبي هريرة، وغيرهم.
ثم ظهر بعد هؤلاء وفي زمن الحسن البصري بالبصرة، خلاف واصل ابن عطاء في القدر، وفي القول بالمنزلة بين المنزلتين، ومجادلته للحسن البصري في ذلك، واعتزاله مجلسه، ومن ذلك الوقت ظهرت فرقة المعتزلة.
ثم كان من أصحاب الديانات المختلفة كاليهودية والنصرانية، والمجوسية، والصائبة.. الخ. من تزيا بزي الإسلام وأبطن الكيد له، حنينا إلى ملتهم الأولى، كعبد الله بن سبأ اليهودي، فأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة، ويرجون لهم الفرقة، فأفلحوا فيما قصدوا إليه من تحزب المسلمين وتفرقهم.
وفي خلال ذلك غلا بعض الطوائف التي ولدها الخلاف، فابتدعوا أقوالا خرجت بهم عن دائرة الإسلام كالقائلين بالحلول والتناسخ من السبئية وكالباطنية الذين لا يعدون من فرق الإسلام، وإنما هم في الحقيقة على دين المجوس.
لم يزل الخلاف يتشعب والآراء تتفرق حتى تفرق أهل الإسلام وأرباب المقالات، إلى ثلاث وسبعين فرقة كما قال صاحب المواقف(1)، وكما عدهم وبينهم الأمام الكبير، أبو المظفر الاسفراييني في كتابه، ((التبصير في الدين))(2) وليس هذا موضع ذكرها واستقصائها.
والذي اشتهر من هذه الفرق خمس: أهل السنة، والمعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج، وما وراء ذلك من الفرق كالجبرية، والباطنية، والمشبهة، وغيرها، فمعظمها مشتق من هذه الفرق الخمس الرئيسية.
نحن نعلم هذا التفرق الذي أصاب المسلمين في وحدتهم الدينية والسياسية، ونعلم أيضا أن الناس كانوا في عصر النبي r وبعده يقرأون القرآن أو يسمعونه فيغنون بتفهم روحه، فإن عنى علماؤهم بشئ وراء ذلك، فما يوضح الآية من سبب النزول، واستشهاد بأبيات من أشعار العرب تفسر لفظا غريبا، أو أسلوبا غامضا، ولكنا لا نعلم في هذا العصر الأول، انحياز الصحابة إلى مذاهب دينية وآراء في الملل والنحل، فلما وقع هذا التفرق تنظر إلى القرآن من خلال عقيدتها، وتفسره بما يتلائم مع مذهبها، فالمعتزلي يطبق القرآن على مذهبه في الاختيار، والصفات، والتحسين، والتقبيح العقليين.. ويؤول ما لا يتفق ومذهبه، وكذلك يفعل الشيعي، وكذلك يفعل كل صاحب مذهب حتى يسلم له مذهبه.
غير أننا لم نحط علما بكل هذه النظرات المذهبية في القرآن، ولم يقع تحت أيدينا من كتب التفسير المذهبية إلا القليل النادر بالنسبة لما حرمت منه المكتبة الإسلامية، على أن هذا القليل ليس إلا لبعض الفرق دون بعض، وهناك تفسيرات وتأويلات لبعض من آيات القرآن لبعض من الفرق، ولكنها متفرقة مشتتة بين صحائف كتب التفسير خاصة وكتب العلم عامة، وهناك فرق أخرى لم نظفر لها بتفسير كامل ولا بشئ من التفسير، ولهذا أرى أن أتكلم عن التفسير المذهبي لا لكل الفرق، بل للفرق التي ألفت وخلفت لنا كتبا في التفسير، ووقعت تحت أيدينا، فاستطعنا بعد القراءة فيها والنظر إليها أن نحكم عليها بما يتناسب مع المنهج الذي انتهجه فيها مؤلفوها، والطريق الذي سلكوه في شرحهم لكتاب الله تعالى.
وسبق لنا أن تكلمنا عن التفسير بالرأي الجائز وأهم ما ألف فيه من كتب، وذلك هو تفسير أهل السنة والجماعة، وتلك هي أشهر تفاسيرهم التي خلفوهم للناس، فلا نعود لذلك، بل نشرع في الكلام عن موقف غيرهم من الفرق، بالنسبة لكتاب الله تعالى، وعن أهم ما خلفوه لنا من كتب في التفسير ، والله يتولانا ويسدد خطانا، إنه سميع مجيب.
* * *
المعتزلة .. وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
· كلمة إجمالية عن المعتزلة وأصولهم المذهبية – نشأة المعتزلة:
نشأت هذه الفرقة في العصر الأموي ولكنها شغلت الفكر الإسلامي في العصر العباسي ردحا طويلا من الزمان، وأصل هذه الفرقة هو واصل ابن عطاء الملقب بالغزال، المولود سنة 80 هـ (ثمانين) والمتوفى سنة 131هـ (أحدى وثلاثين ومائة)، في خلافة هشام بن عبد الملك، وذلك أنه دخل على الحسن البصري رجل فقال: يا إمام الدين، ظهر في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبيرة ـ يريد وعيدية الخوارج ـ وجماعة أخرى يرجئون الكبائر ويقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فكيف تحكم لنا أن نعتقد في ذلك؟ فتفكر الحسن، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، ثم قام إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به، من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، ويثبت له المنزلة بين المنزلتين، قائلا: أن المؤمن اسم مدح، والفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمنا، وليس بكافر أيضا، لإقراره بالشهادتين، ولوجود سائر أعمال الخير فيه، فإذا مات بلا توبة خلد في النار، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، لكن يخفف عنه، وتكون دركته فوق دركات الكفار، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل ، فلذلك سمى هو وأصحابه معتزلة.
ويلقب المعتزلة بالقدرية تارة، والمعطلة تارة أخرى، أما تلقيبهم بالقدرية، فلأنهم يسندون أفعال العباد إلى قدرتهم، وينكرون القدر فيها، وأما تلقيبهم بالمعطلة فلأنهم يقولون بنفي صفات المعاني فيقولون: الله عالم بذاته قادر بذاته .. وهكذا.
فأنت ترى مما تقدم أن الاعتزال نشأ في البصرة ولكن سرعان ما انتشر في العراق واعتنقه من خلفاء بني أمية يزيد بن الوليد ومروان بن محمد وفي العصر العباسي استفحل أمر المعتزلة واحتلت فكرهم وعقائدهم من عقول الناس وجدل العلماء مكانا عظيما، وما لبث أن تكونت للاعتزال مدرستان كبيرتان: مدرسة البصرة، وعلى رأسها واصل بن عطاء ومدرسة بغداد وعلى رأسها بشر بن المعتمر وكان بين معتزلي البصرة ومعتزلي بغداد جدال وخلاف في كثير من المسائل.
ولا أطيل بذكر ما كان بين المدرستين من مسائل خلافية، فإن هذه العجالة لا تتحمل الإطالة والتفصيل، ويكفي أن أجمل القول في ذكر أصول المعتزلة، وإن أشير إلى تعدد فرقهم ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب التي الفت في تاريخ الفرق، وهي كثيرة.
* * *
· أصول المعتزلة:
أما أصول المعتزلة فهي خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأصول الخمسة يجمع الكل عليها ومن لم يقل بها جميعا فليس معتزليا بالمعنى الصحيح، قال أبو الحسن الخياط أحد زعماء المعتزلة في القرن الثالث الهجري: ((وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت هذه الخصال فهو معتزلي)).
أما التوحيد: فهو لب مذهبهم، ورأس نحلتهم وقد بنوا على هذا الأصل: استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وان الصفات ليست شيئا غير الذات وإن القرآن مخلوق لله تعالى.
وأما العدل: فقد بنوا عليه: أن الله تعالى لم يشأ جميع الكائنات، ولا خلقها ولا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله تعالى، لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعا وما سوى ذلك فأنه يكون بغير مشيئته.
وأما الوعد والوعيد: فمضمونه أن الله يجازي من أحسن بالإحسان، ومن أساء بالسوء لا يغفر لمرتكب الكبيرة ما لم يتب، ولا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يخرج أحدا منهم من النار، وأوضح من هذا أنهم يقولون: أنه يجب على الله أن يثيب المطيع ويعقب مرتكب الكبيرة فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر واخبره به، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده، وهم يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات والعقاب على المعاصي قانون حتمي التزم الله به، كما قالوا: أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ولو صدق بوحدانية الله وآمن برسله، لقوله تعالى: في الآية (81) من سورة البقرة: } بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون {...
وأما المنزلة بين المنزلتين: فقد سبق أن بيناها في مناظرة واصل بن عطاء للحسن البصري.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مبدأ مقرر عندهم وواجب على المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية وهداية الضالين وإرشاد الغاوين، ولكنهم بالغوا في هذا الأصل وخالفوا ما عليه الجمهور فقالوا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بالقلب أن كفى، وباللسان إن لم يكف القلب، وباليد إن لم يغنيا، وبالسيف إن لم تكف اليد، لقوله تعالى في الآية (9) من سورة الحجرات: } وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله {.. وهم في ذلك لا يفرقون بين صاحب السلطان وغيره، كما أنهم لم يفرقوا بين الأصول الدينية المجمع عليها وعقائدهم الاعتزالية.
وهناك مبادئ أخرى للمعتزلة لا يشتركون فيها بل هي مبادئ خاصة لكل فرقة من فرقهم المتعددة، التي بلغت العشرين أو تزيد ولا أطيل بذكر هذه الفرق وبيان خصائص كل فرقة، وأحيلك على المواقف أو التبصير في الدين، أو الفرق بين الفرق للبغدادي، أو الملل والنحل للشهرستاني، أو الفصل لابن حزم، لتتعرف منها هذه الفرق وخصائصها، إذ ليس هذا موضع التفصيل.
وبعد.. فقد عرفنا نشأة المعتزلة ، وعرفنا أصولهم التي اجمعوا عليها، وما علينا بعد ذلك إلا أن نتكلم عن موقفهم الذي وقفوه من تفسير القرآن، ثم بعد ذلك نتكلم عن أهم من عرفناه من مفسري المعتزلة، وعن كتبهم التي ألفوها في التفسير، ونسأل الله التوفيق والسداد.
* * *
موقف المعتزلة من تفسير القرآن الكريم
· إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة:
أقام المعتزلة مذهبهم على الأصول الخمسة التي ذكرناها آنفا، ومن المعلوم أن هذه الأصول لا تتفق ومذهب أهل السنة والجماعة، الذين يعتبرون أهم خصومهم، لهذا كان من الضروري لهذه الفرقة ـ فرقة المعتزلة ـ في سبيل مكافحة خصومها، أن تقيم مذهبها وتدعم تعاليمها على أسس دينية من القرآن، وكان لابد لها أيضا أن ترد الحجج القرآنية لهؤلاء الخصوم وتضعف من قوتها، وسبيل ذلك كله هو النظر إلى القرآن أولا من خلال عقيدتهم، ثم إخضاعهم عبارات القرآن لآرائهم التي يقولون بها، وتفسيرهم لها تفسيرا يتفق مع نحلتهم وعقيدتهم.
ولا شك أن مثل هذا التفسير الذي يخضع للعقيدة، يحتاج إلى مهارة كبيرة، واعتماد على العقل أكثر من الاعتماد على النقل، حتى يستطيع المفسر الذي هذا حاله، أن يلوي العبارة إلى جانبه، ويصرف ما يعارضه عن معارضته له وتصادمه معه.
والذي يقرأ تفسير المعتزلة، يجد أنهم بنوا تفسيرهم على أسسهم من التنزيه المطلق والعدل وحرية الإرادة، وفعل الأصلح، ونحو ذلك ووضعوا أسسا للآيات التي ظاهرها التعارض فحكموا العقل، ليكون الفيصل بين المتشابهات وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة أو التابعين، فإذا جاءوا إلى المتشابهات سكتوا وفوضوا العلم لله.
* * *
· إنكار المعتزلة لما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة:
ثم إن هذا السلطان العقلي المطلق، قد جر المعتزلة إلى إنكار ما صح من الأحاديث التي تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية، كما أنه نقل التفسير الذي كان يعتمد أولا وقبل كل شئ على الشعور الحي، والإحساس الدقيق، والبساطة في الفهم وعدم التكلف والتعمق، إلى مجموعة من القضايا العقلية، والبراهين المنطقية، مما يشهد للمعتزلة ـ رغم اعتزالهم ـ بقوة العقل وجودة التفكير.
ومع أن هذا السلطان العقلي المطلق، كان له الأثر الأكبر في تفسير المعتزلة للقرآن، حتى اضطرهم في بعض الأحيان إلى رد ما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة، فإنا لا نستطيع أن نقول أن المعتزلة كانوا يقصدون الخروج على الحديث أو عدم الاعتراف بالتفسير المأثور، وذلك لأن حالهم بإزاء التفسير المأثور وتصديقهم له، يظهر بأجلى وضوح من حكم النظام على استرسال المفسرين من معاصريه.
وكان النظام معتبرا في مدرسة المعتزلة من الرؤوس الحرة الواسعة الحرية وقد ذكر لنا تلميذه الجاحظ قوله الذي قاله في شأن هؤلاء المفسرين وهذا نصه: قال الجاحظ كن أبو إسحاق يقول: لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كل مسألة فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلما كان المفسر اغرب عندهم كان أحب إليهم، وليكن عندكم عكرمة والكلبي، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصم، في سبيل واحدة وكيف أثق تفسيرهم واسكن إلى صوابهم وقد قالوا في قوله عز وجل: } وأن المساجد لله {.(1)} أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت {(1) .. أنه ليس يعني الجمال والنوق، وإنما يعني السحاب ـ وإذا سئلوا عن قوله: } وطلح منضود {(2) .. قالوا الطلح هو الموز ـ وجعلوا الدليل على أن شهر رمضان قد كان فرضا على جميع الأمم وإن الناس غيروه قوله تعالى: } كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم {(3). وقالوا في قوله تعالى : } رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا { (4)} ويل للمطففين {.(5)} قل أعوذ برب الفلق {.. قالوا: الفلق واد في جهنم ثم قعدوا يصفونه وقال آخرون: الفلق المقطرة بلغة اليمن .. إلى آخر ما ذكره من تفسيراتهم الغريبة(6).. الويل : واد في جهنم ثم قعدوا يصفون ذلك الوادي ومعنى الويل في كلام العرب معروف، وكيف كان في الجاهلية قبل الإسلام، وهو من أشهر كلامهم ـ وسئلوا عن قوله تعالى : قالوا: أنه حشره بلا حجه ـ وقالوا في قوله تعالى: . إن الله عز وجل لم يعن بهذا الكلام مساجدنا التي نصلي فيها، بل إنما عنى الجباه وكل ما سجد الناس عليه من يد وجبهة وانف وثفنة ـ وقالوا في قوله تعالى:
هذا وان الزمخشري ـ وهو أهم من عرفنا من مفسري المعتزلة ـ نجده كثيرا ما يذكر ما جاء عن الرسول r أو عن السلف من التفسير ويعتمد على ما يذكر من ذلك في تفسيره.
فمثلا عن تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (41،42) من سورة الأحزاب: } يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيراً، وسبحوه بكرة وأصيلا {.. يقول ما نصه: ((اذكروا الله)) اثنوا عليه بضروب الثناء، من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك ((بكرة وأصيلا)) أي كافة الأوقات، قال رسول الله r : ((ذكر الله على فم كل مسلم)) وروى: ((في قلب كل مسلم)) وعن قتادة : ((قولوا سبحان الله والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) وعن مجاهد: ((هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والغفلان)) أعني اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك صم وصل يوم الجمعة ..الخ))(7)
* * *
· ادعاؤهم أن كل محاولاتهم في التفسير بمرادة لله:
ثم أن المعتزلة ـ بناء على رأيهم في الاجتهاد، من أن الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد، فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله تعالى في حق كل واحد مجتهدة(1) ـ رفضوا أن يكون للآية التي تحتمل أوجها تفسيرا واحدا لا خطأ فيه، وحكموا على جميع محاولاتهم التي حاولوها في حل المسائل الموجودة في القرآن بأنها مرادة لله تعالى، وغاية ما قطعوا به هو عدم إمكان التفسير المخالف لمبادئهم وآرائهم.
وبدهي أن هذا الذي ذهب إليه المعتزلة يخالف مذهب أهل السنة من أن لكل آية من القرآن معنى واحد مرادا لله تعالى، وما عداه من المعاني المحتملة فهي محاولات واجتهادات، يراد منها الوصول إلى مراد الله بدون قطع، غاية الأمر أن المفسر يقول باجتهاده والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو مأجور في الحالتين وان كان الأجر على تفاوت.
· المبدأ اللغوي في التفسير وأهميته لدى المعتزلة:
كذلك نجد المعتزلة قد حرصوا كل الحرص على الطريقة اللغوية التي تعتبر عندهم المبدأ الأعلى لتفسير القرآن، وهذا المبدأ اللغوي، يظهر أثره واضحا في تفسيرهم للعبارات القرآنية التي لا يليق ظاهرها عندهم بمقام الألوهية، أو العبارات التي تحتوي على التشبيه، أو العبارات التي تصادم بعض أصولهم ، فنراهم يحاولون أولا أبطال المعنى الذي يرونه مشتبها في اللفظ القرآني، ثم يثبتون لهذا اللفظ معنى موجودا في اللغة يزيل هذا الاشتباه ويتفق مع مذهبهم ويستشهدون على ما يذهبون إليه من المعاني التي يحملون ألفاظ القرآن عليها بأدلة من اللغة والشعر العربي القديم.
فمثلا الآيات التي تدل على رؤية الله تعالى كقوله سبحانه في الآيتين (22،23) من سورة القيامة : } وجوه يؤمئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة {.. وقوله تعالى في الآية (23) من سورة المطففين: } على الأرائك ينظرون { نجد المعتزلة ينظرون إليها بعين غير العين التي ينظر بها أهل السنة، ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يطبقوا مبدأهم اللغوي حتى يتخلصوا من الورطة التي أوقعهم فيها ظاهر اللفظ الكريم، فإذا بهم يقولون: إن النظر إلى الله معناه الرجاء والتوقع للنعمة والكرامة، واستدلوا على ذلك بأن النظر إلى الشئ في العربية ليس مختصا بالرؤية المادية، واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر:
وإذ نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعماً.
ومثلا عندما يقرأ المعتزلي قوله تعالى في الآية (31) من سورة الفرقان: } وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين {.. يجد أن مذهبه الذي يقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله لا يتفق وهذا الظاهر من معنى الجعل، ولكن سرعان ما يتخلص من هذه الضائقة العالم المعتزلي الكبير أبو على الجبائي فيفسر ((جعل)) بمعنى ((بين)) لا بمعنى خلق ويستدل على ذلك بقول الشاعر:
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا على ثبت من أمرهم حين يمموا
r قد سحر، ولم يقفوا طويلا أمام ما يعارضهم من سورة الفلق، بل تخلصوا بتأويلات ثلاث ذكرها الزمخشري في كشافه (جزء 2 ص 568)
كذلك تمرد بعض أعلام المعتزلة كالنظام على الاعتقاد بوجود الجن، وثار بعضهم كالزمخشري ضد من يقول بأن الجن لها قوة التأثير في الإنسان مع الاعتراف منه بوجودها في نفسها، فأولوا ما يصادمهم من الآيات القرآنية ، وأنكروا أو تأولوا ما صح من الأحاديث النبوية، كالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، وفيه: إن شيطانا من الجن عرض للنبي r وهو في الصلاة يريد أن يشغله عنها فأمكنه الله منه، وكالحديث الصحيح الثابت عن رسول الله r وهو ((ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها))(1).
كذلك تمرد المعتزلة على الاعتقاد بكرامات الأولياء، واعتمدوا في تمردهم هذا على قول الله تعالى في الآيتين (26،27) من سورة الجن: } عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول {.. نرى الزمخشري يستنتج من هذه الآية: ((أنه تعالى لا يطلع على الغيب إلا المترضي، الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضي وفي هذا إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم وان كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما ابعد شئ عن الارتضاء وادخله في السخط))(2).
وبعد فإن المعتزلة لم يقفوا هذا الموقف الذي لا يتفق مع معتقدات أهل السنة ولم يعطوا العقل هذا السلطان الواسع في التفسير، إلا من أجل أن يبعدوا ـ كما يزعمون ـ كل الأساطير الخرافية عن محيط الحقائق الدينية، وليربطوا بين القرآن وبين عقيدتهم التي قامت على التوحيد الخالص من كل شائبة.
ولكن هل وقف أهل السنة حيال هذه المحاولات الاعتزالية في فهم نصوص القرآن الكريم موقف التسليم لها والرضا بها؟ أو أغضبهم هذا التصرف من خصومهم المعتزلة؟ الحق أن هذا التصرف من المعتزلة أثار عليهم خصومهم أهل السنة، واستعداهم عليهم، فرموهم بالعبارات اللاذعة، واتهموهم بتحريف النصوص عن مواضعها، تمشيا مع الهوى ميلا مع العقيدة وقد مر بك آنفا مقالة ابن قتيبة وفيها يشدد عليهم النكير من اجل مسلكهم اللغوي في التفسير.
* * *
· حكم الإمام أبي الحسن الأشعري على تفسير المعتزلة:
وهذا هو الإمام أبو الحسن الأشعري، يحكم على تفسير المعتزلة بأنه زيغ وضلال، وذلك حيث يقول في مقدمة تفسيره المسمى بالمختزن والذي لم يقع لنا ((أما بعد، فإن أهل الزيغ والتضليل تأولوا القرآن على آرائهم، وفسروه على أهوائهم: تفسيرا لم ينزل الله به سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا رووه عن رسول رب العالمين، ولا عن أهل بيته الطيبين، ولا عن السلف المتقدمين، من الصحابة والتابعين، افتراءا على الله ، قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
وإنما اخذوا تفسيرهم عن أبي الهذيل بياع العلف ومتبعيه وعن إبراهيم نظام الحرز ومقلديه، وعن الفوطي وناصريه، وعن المنسوب إلى قرية جبي ومنتحليه، وعن الاشج جعفر بن حرب ومجتبييه، وعن جعفر بن مبشر القصبي ومتعصبيه، وعن الاسكافي الجاهل ومعظميه، وعن الفروي المنسوب إلى مدينة بلخ وذويه، فأنهم قادة الضلال من المعتزلة الجهال، الذين قلدوهم في دينهم، وجعلوهم معولهم الذي عليه يعولون، وركنهم الذي إليه يستندون.
ورأيت الجبائي ألف في تفسير القرآن كتابا، أوله على خلاف ما انزل الله عز وجل، وعلى لغة أهل قريته المعروفة بجبي، وليس من أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وما روي في كتابه حرفا عن احد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه ، ولولا أنه استغوى بكتابه كثيرا من العوام، واستنزل به عن الحق كثيرا من الطغام، لم يكن لتشاغلي به وجه))(1).
· حكم ابن تيمية على تفسير المعتزلة:
كذلك حكم ابن تيمية على تفسيرهم فقال: ((إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تار من العلم بفساد قولهم، وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن إما دليلا على قولهم، أو جوابا على المعارض لهم، ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحا ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف، ونحوه، حتى أنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله، وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك))(1).
* * *
· حكم ابن القيم على تفسير المعتزلة:
كذلك نجد العلامة ابن القيم يحكم على تفسير المعتزلة حكما قاسيا فيقول: ((أنه زبالة الأذهان، ونخالة الأفكار، وعفار الآراء، ووساوس الصدور، فملأوا به الأوراق سواداً، والقلوب شكوكا، والعالم فسادا، وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل))(2).
* * *
أهم كتب التفسير الإعتزالي
صنف كثير من شيوخ المعتزلة تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم، ولم تكن هذه التفاسير أكثر حظا من غيرها من كتب التفسير المختلفة، حيث امتدت إلى كثير منها يد الزمان، فضاعت بتقادم العهد عليها، وحرمت المكتبة الإسلامية العامة من معظم هذا التراث العلمي الذي لو بقى إلى يومنا هذا لألقى لنا ضوءا واضحا على مدى التفكير التفسيري، لشيوخ هذا المذهب الاعتزالي، ولكشف لنا عن حقيقة ما ينسب لبعض شيوخهم من تفسيرات واسعة النطاق، نسمع بها من علمائنا المتقدمين، ونقف منها موقف الحائر بين الشك واليقين، لما يذكر عنها من الاستفاضة والتضخم إلى حد يكاد يكون متخيلا أو مبالغا فيه.
نتصفح طبقات المفسرين للسيوطي، وطبقات المفسرين لتلميذه الداودي، وغيرهما من الكتب التي لها عناية بهذا الشأن، فنجد أن من أشهر من صنف في التفسير من المعتزلة: أبو بكر، عبد الرحمن بن كيسان الأصم المتوفى سنة 240 هـ (أربعين ومائتين من الهجرة) أقدم شيوخ المعتزلة، وشيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، فقد ذكر ابن النديم في الفهرست:
أنه ألف تفسيرا للقرآن الكريم(1)، ولكنا لا نعلم عن هذا التفسير خبرا، حيث أنه فقد بمرور الزمن وتقادم العهد عليه.
ومحمد بن عبد الوهاب بن سلام (أبو على الجبائي) المتوفى سنة 303هـ (ثلاث وثلاثمائة من الهجرة) واحد شيوخ المعتزلة الذين كانت لهم شهرة واسعة في الفلسفة والكلام، فقد ذكر السيوطي في طبقات المفسرين(2): أنه ألف في التفسير وذكر ذلك ابن النديم في الفهرست أيضا ولكنا لا نعلم شيئا عن هذا التفسير أكثر مما ذكرناه آنفا عن أبي الحسن الأشعري(3).
وأبو القاسم، عبدالله بن احمد البلخي الحنفي، المعروف بالكعبي المعتزلي، المتوفى سنة 319هـ (تسع عشرة وثلاثمائة من الهجرة) فقد ذكر صاحب كشف الظنون: أنه ألف تفسيرا كبيرا يقع في أثنى عشر مجلدا وقال: أنه لم يسبق إليه(4) ولكن لنا هذا التفسير كغيره.
وأبو هاشم عبد السلام بن أبي على الجبائي المتوفى سنة 31هـ (أحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة)، ذكر السيوطي في طبقات المفسرين : أنه ألف تفسيرا وقال أنه رأى جزءا منه، ولكنا لم نظفر به أيضا.
وأبو مسلم، محمد بن بحر الأصفهاني المتوفى سنة 322هـ (اثنتين وعشرين وثلاثمائة من الهجرة)، صنف تفسيرا اسمه: جامع التأويل لمحكم التنزيل يقع في أربعة عشر مجلدا، وقيل في عشرين مجلدا، وقد أشار إلى هذا التفسير ابن النديم في الفهرست والسيوطي في بغية الوعاة في طبقات النحاة، وهذا التفسير ـ فيما يبدوـ هو الذي يعتمد عليه الفخر الرازي فيما ينقله في تفسيره من أقوال منسوبة لأبي مسلم، وقد اخذ بعض المؤلفين ما جاء في تفسير الفخر الرازي منسوبا بأبي مسلم، وجمعه في كتاب مستقل سماه تفسير أبي مسلم الأصفهاني، وقد اطلعت على جزء منه صغير الحجم بمكتبة الجامعة المصرية (جامعة القاهرة).
وأبو الحسن على بن عيسى الرماني المتوفى سنة 384هـ (أربع وثمانين وثلاثمائة من الهجرة) ، وأحد شيوخ المعتزلة المتشيعين صنف تفسيرا للقرآن الكريم، قال السيوطي في طبقات المفسرين: أنه رآه وذكر صاحب كشف الظنون: أنه اختصره عبد الملك بن على المؤذن الهروي المتوفى سنة 489هـ (تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة)(1) ولكنا لم نظفر به ولا بمختصره.
وعبيد الله بن محمد بن جرو الاسدي أبو القاسم النحوي العروضي المعتزلي المتوفى سنة 387هـ (سبع وثمانين وثلاثمائة من الهجرة)، قال السيوطي في طبقات المفسرين: أنه صنف تفسيرا للقرآن الكريم وذكر في ((بسم الله الرحمن الرحيم)) مائة وعشرين وجها ولكنا لم نظفر به أيضا.
والقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، المتوفى سنة 415هـ (ست وثلاثين وأربعمائة من الهجرة) كتب بحوثا فياضة في بعض آيات القرآن الكريم التي تصادم مذهب المعتزلة، ووفق بين ظاهر النظم الكريم والعقيدة الاعتزالية، ونجد هذه البحوث التفسيرية ضمن ما دونه في أمالية التي سماها: غرر الفوائد ودرر القلائد.
وعبد السلام بن محمد بن يوسف القزويني شيخ المعتزلة المتوفى سنة 483هـ (ثلاث وثمانين وأربعمائة من الهجرة)، فسر القرآن تفسيرا واسعا، فقد جاء في طبقات المفسرين للسيوطي ((أنه جمع التفسير الكبير الذي لم يرد في التفاسير اكبر منه ولا أجمع للفوائد، لولا أنه مزجه بكلام المعتزلة وبث فيه معتقده وهو في ثلاثمائة مجلد، منها سبع مجلدات في الفاتحة)) ونقل عن ابن النار أنه قال في شان القزويني هذا: ((أنه كان طويل اللسان، ولم يكن محققا إلا في التفسير، فأنه لهج بالتفاسير حتى جمع كتابا بلغ خمسمائة مجلد حشي فيه العجائب حتى رأيت منه مجلدا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: } واتبعوا ما تتلوا الشياطين {.. الآية))(1)
وأبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538هـ (ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة) فسر القرآن الكريم تفسيرا عظيما جدا لولا ما فيه من نزعا الاعتزال، وهو اشمل ما وصل إلينا من تفاسير المعتزلة.
هؤلاء هم أشهر من عرفناهم من مفسري المعتزلة، وهذه هي تفاسيرهم التي نسمع عنها، ولم يصل إلينا منها إلا هذه المصنفات الثلاثة: تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار، وأمالي الشريف المرتضي، والكشاف للزمخشري لهذا نرى أن نتكلم عن هذه الكتب الثلاثة، وعن المسلك الذي سلكه فيها أصحابها، بما يلقي لنا ضوءا على المنحى الذي نحاه المعتزلة في تفسيرهم لكتبا الله تعالى، وتأويلهم لنصوصه حتى تشهد لهم ، أو لا تتعارض معهم على الأقل.
* * *
1 - تنزيه القرآن عن المطاعن - للقاضي عبد الجبار
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
استدعاه الصاحب إلى الري بعد سنة 360هـ (ستين وثلاثمائة من الهجرة) فولى قضائها، وبقى بها مواظبا على التدريس إلى آخر حياته، وكان الصاحب يقول فيه: هو أعلم أهل الأرض.
وقد خلف القاضي عبد الجبار مصنفات في أنواع مختلفة من العلوم، منها: كتاب الخلاف والوفاق، وكتاب المبسوط، وكتاب المحيط، وكلها في علم الكلام، وألف في أصول الفقه: النهاية ، والعمدة، وشرحه، وألف في المواعظ كتابا سماه نصيحة المتفقهة، وقال ابن كثير في طبقاته : ((إن من أجل مصنفاته وأعظمها، كتاب دلائل النبوة، في مجلدين، أبان فيه عن علم وبصيرة جيدة وبالجملة، فقد طبق الأرض بكتبه، وبعد صيته، وعظم قدره، حتى انتهت إليه الرياسة في المعتزلة، وصار شيخها وعالمها غير مدافع، وكانت وفاته في ذي القعدة 415هـ (خمسة عشر وأربعمائة من الهجرة).
* * *
· التعريف بكتاب تنزيه القرآن عن المطاعن وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلف هذا الكتاب في مقدمته (ص4،3): أنه لا ينتفع بكتاب الله إلا بعد الوقوف على معاني ما فيه، وبعد الفيصل بين محكمه ومتشابهه، وذكر أن كثيرا من الناس قد ضل بأن تمسك بالمتشابه حتى اعتقد أن قوله تعالى: } سبح لله ما في السموات وما في الأرض { .. حقيقة في الحجر والمدر والطير والنعم، وربما رأوا في ذلك تسبيح كل شئ من ذلك، ومن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه، قال تعالى: } أفلا يتدبرون القرآن {. وكذلك وصفه تعالى بأنه: } يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين {.. ثم قال: وقد أملينا في ذلك كتابا يفصل بين المحكم والمتشابه، عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها، وبينا معاني ما تشابه من آياتها، مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها، ليكون النفع به أعظم، ونسأل الله التوفيق للصواب إن شاء الله.
فالكتاب لم يقصد فيه مؤلفه أن يعرض لشرح كتاب الله آية آية، بل كان كل همه ـ كما نأخذ من عبارته السابقة، وكما يظهر لنا من مسلكه في الكتاب نفسه ـ موجها إلى الفصل بين محكم الكتاب ومتشابهه، وإلى بيان معاني هذه الآيات المتشابهة، ثم إلى بيان خطأ فريق من الناس، في تأويلها، وهو يقصد بهذا الفريق ـ في الغالب ـ جماعة أهل السنة الذين لا يرون رأيه في القرآن، ولا ينظرون إليه نظرته الاعتزالية.
نقرأ هذا الكتاب، فنجد أن مؤلفه قد ابتدأه بسورة الفاتحة، واختتمه بسورة الناس، وكله لا يستقصى جميع السورة، ولا يعرض لكل آياتها بالشرح كما قلنا، بل نجده يبني كتابه على مسائل، كل مسألة تتضمن إشكالا وجوابا، وهذا الإشكال تارة يرد على ظاهر النظم الكريم من ناحية الصناعة العربية، وتارة يرد عليه من ناحية أنه لا يتفق مع عقيدته الاعتزالية.
* * *
3 - الكشاف عن حقائق التنزيل
وعيون الأقاويل في وجوه التأويل - للزمخشري
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو القاسم: محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي، الإمام الحنفي المعتزلي، الملقب بجار الله(1)، ولد في رجب سنة 467هـ (سبع وستين وأربعمائة من الهجرة) بزمخشر، قرية من قرى خوارزم وقد بغداد ولقي الكبار واخذ عنهم، دخل خراسان مرارا عديدة، وما دخل بلدا إلا واجتمع عليه أهلها وتتلمذوا له، وما ناظر أحدا إلا وسلم له واعترف به، ولقد عظم صيته وطار ذكره حتى صار إمام عصره من غير مدافعة.
ليس عجيبا أن يحظى الزمخشري بكل هذا وهو الإمام الكبير في التفسير، والحديث والنحو، واللغة والأدب، وصاحب التصانيف البديعة في شتى العلوم، ومن اجل مصنفاته: كتابه في تفسير القرآن العزيز الذي لم يصنف قبله مثله، وهو ما نحن بصدده الآن، والمحاجاة في المسائل النحوية، والمفرد والمركب في العربية، والفائق في تفسير الحديث، وأساس البلاغة في اللغة، والمفصل في النحو، ورؤوس المسائل في الفقه.. وغير هذا كثير من مؤلفاته.
قال صاحب وفيات الأعيان ((كان الزمخشري معتزلي الاعتقاد، متظاهرا باعتزاله، حتى نقل عنه: أنه كان إذا قصد صاحبا له واستأذن عليه في الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب وأول ما صنف كتاب الكشاف كتب استفتاح الخطبة ((الحمد لله الذي خلق القرآن)) فيقال أنه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب احد فيه، فغيره بقوله : ((الحمد لله الذي جعل القرآن)) وجعل عندهم بمعنى خلق والبحث في ذلك يطول، ورأيت في كثير من النسخ ((الحمد الله الذي أنزل القرآن)) وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف)).
الفيروزبادي وصاحب القاموس يقول فيما علقه على خطبة الكشاف: ((قال بعض الطلبة ـ وأثبته بعض المعتنين بالكشاف في تعليق له عليه ـ أنه كان في الأصل كتب ((خلق)) مكان ((انزل)) وأخيرا غيره المصنف أو غيره حذرا عن الشناعة الواضحة هذا قول ساقط جدا وقد عرضته على أستاذي فأنكره غاية الإنكار، وأشار إلى أن هذا القول بمعزل عن الصواب لوجهين: أحدهما أن الزمخشري لم يكن أهلا لأن تفوته اللطائف المذكورة في ((انزل)) في ((نزل)) في مفتتح كلامه ووضع كلمة خالية من ذلك، والثاني: أنه لم يكن يأنف من انتمائه إلى الاعتزال وإنما كان يفتخر بذلك، وأيضا أتى عقيبه بما هو صريح في المعنى(1)، ولم يبال بأنه قبيح، وقد رأيت النسخة التي بخط يده بمدينة السلام مختبئة في تربة الإمام أبي حنيفة خالية عن اثر كشط وإصلاح))(2).
وكانت وفاة الزمخشري رحمه الله ليلة عرفة سنة 538هـ (ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة) بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة ورثاه بعضهم، بأبيات من جملتها:
فأرض مكة ندى الدمع مقلتها حزنا لفرقة جار الله محمود(3)
* * *
· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه ـ قصة تأليف الكشاف :
قبل الخوض في التعريف بالكشاف للزمخشري، أرى أن أسوق لك قصة تأليفه وما كان من الزمخشري من التردد بين الإقدام عليه والإحجام عنه أولا... ثم العزم المصمم منه على تأليفه حتى أخرجه للناس كتابا جامعا نافعا.
أسوق هذه القصة نقلا عن الزمخشري في مقدمة كشافه، فقد أوضح ما كان منه أول الأمر، وكشف عن السبب الذي دعاه إلى تأليف كتابه في التفسير فقال:
((ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلى في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب، أفاضوا في الاستحسان والتعجب، واستطيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك، حتى اجتمعوا إلى مقترحين أن أملي عليهم الكشف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل، في وجوه التأويل، فاستعفيت ، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين، وعلماء العدل والتوحيد، والذي حداني إلى الاستعفاء ـ على علمي أنهم طلبوا ما الإجابة إليه على واجبة، لأن الخوض فيه كفرض العين ـ ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله، وركاكة رجاله، وتقاصر همهم عن أدنى عدد هذا العلم، فضلا أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمي البيان والمعاني، فأمليت عليهم مسألة في الفواتح، وطائفة من الكلام في حقائق سورة البقرة، وكان كلاما مبسوطا كثير السؤال والجواب، طويل الذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم، وان يكون لهم منارا ينتحونه، ومثالا يحتذونه، فلما صمم العزم على معاودة جوار الله، والإناخة بحرم الله فتوجهت تلقاء مكة، وجدت في مجتازي بكل بلد من فيه مسكة من أهلها ـ وقليل ما هم ـ عطشى الأكباد إلى العثور على ذلك المملي، متطلعين إلى إيناسه، حراصاً على اقتباسه، فهز ما رأيت من عطفي، وحرك الساكن من نشاطي، فلما حططت الرحل بمكة إذا أنا بالشبعة السنية من الدوحة الحسنية: الأمير الشريف، الإمام شرف آل رسول الله، أبي الحسن، ابن حمزة بن وهاس ـ أدام الله مجده ـ وهو النكتة والشامة في بني الحسن، مع كثرة محاسنهم، وجموم مناقبهم، اعطش الناس كبدا، والهبهم حشى، وأوفاهم رغبة، حتى ذكر أنه كان يحدث نفسه في مدة غيبتي عن الحجاز مع تزاحم ما هو فيه من المشادة، بقطع الفيافي وطي المهامة، والإفادة علينا بخوارزم، ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض، فقلت: قد ضاقت على المستعفي الحيل، وعيت به العلل، ورأيتني قد أخذت مني السن، وتقعقع الشن، وناهزت العشر التي سمتها العرب دقاقة الرقاب(1)t، وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، وما هي إلا آية من آيات هذا البيت المحرم، وبركة أفيضت على من بركات هذا الحرم المعظم، اسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه سببا ينجيني ونورا لي على الصراط يسعى بين يدي ويميني، ونعم المسئول(2).، فأخذت في طريقة أخصر من الأولى، مع ضمان التكثير من الفوائد، والفحص عن السرائر، ووفق الله وسدد، ففرغ منه في مقدار مدة خلافة أبي بكر الصديق
هذه قصة تأليف الكشاف كما يرويها الزمخشري نفسه.
* * *
· قيمة الكشاف العلمية:
وأما قيمة هذا التفسير، فهو ـ بصرف النظر عما فيه من الاعتزال ـ تفسير لم يسبق مؤلفه إليه، لما أبان فيه من وجوه الإعجاز في غير ما آية من القرآن، ولما اظهر فيه من جمال النظم القرآني وبلاغته، وليس كالزمخشري من يستطيع أن يكشف لنا عن جمال القرآن وسحر بلاغته، لما برع فيه من المعرفة بكثير من العلوم لاسيما ما برز فيه من الإلمام بلغة العرب. والمعرفة بأشعارهم، وما امتاز به من الإحاطة بعلوم البلاغة والبيان والإعراب والأدب ولقد أضفى هذا النبوغ العلمي والأدبي على تفسير الكشاف ثوبا جميلا، لفت إليه أنظار العلماء وعلق به قلوب المفسرين.
هذا وقد أحس الزمخشري إحساسا قويا بضرورة الإلمام بعلمي المعاني والبيان قبل كل شئ لمن يريد أن يفسر كتاب الله عز وجل، وجهر بذلك في مقدمة الكشاف فقال: ((... ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سبكها، علم التفسير، الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم ـ كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن ـ فالفقيه وان برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بزَّ أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية(1) أحفظ والواعظ وان كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وان علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم احد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شئ من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه، ورَدَّ ورُد عليه، فارساً في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس، درا كاللمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كزا جاسياً، ولا غليظا جافياً، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتقليح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة ووقع في مداحضة ومزالقه))(1).
وفي الحقيقة أن الزمخشري قد جمع كل هذه الوسائل التي لا بد منها للمفسر، فأخرج للناس هذا الكتاب العظيم في تفسير القرآن ((الكشاف عن حقائقه، المخلص من مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه، الملخص لنكته ولطائف نظمه، المنقر عن فقره وجواهر علمه، المكتنز بالفوائد المفتنة التي لا توجد إلا فيه، المحيط بما لا يكتنه من بدع الفاظه ومعانيه، مع الإيجاز، الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول، ولو لم يكن في مضمونه، إلا إيراد كل شئ على قانونه، لكفى به ضالة ينشدها محققة الأخبار، وجوهرة يتمنى العثور عليها غاصة البحار))(2).
ولما علم الزمخشري أن كتابه قد تحلى بهذه الأوصاف قال متحدثا بنعمة الله:
أن التفاسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء والكشاف كالشافي(3).
وإذا كان الزمخشري قد اعتز بكشافه، وبلغ إعجابه به إلى حد جعله يقول فيه ما قل من تقريظ له، وإطراء عليه، فإنا نعذره في ذلك ولا نلومه عليه، فالكتاب وحد في بابه وعلم شامخ في نظر علماء التفسير وطلابه، ولقد اعترف له خصومه بالبراعة وحسن الصناعة، وإن أخذوا عليه بعض المآخذ التي يرجع أغلبها إلى ما فيه من ناحية الاعتزال، وإليك مقالات بعض العلماء في الكشاف:
* * *
· اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن:
عندما يلقى الإنسان نظرة فاحصة على العمل التفسيري الذي قام به العلامة الزمخشري في كشافه، يظهر له من أول وهلة، إن المبدأ الغالب عليه في جهوده التفسيرية، كان في تبيين ما في القرآن من الثروة البلاغية التي كان لها كبير الأثر في عجز العرب عن معارضته والإتيان بأقصر سورة من مثله، والذي يقرأ ما أورده الزمخشري عند تفسيره لكثير من الآيات من ضروب الاستعارات، والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، يرى أن الزمخشري كان يحرص كل الحرص على أن يبرز في حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه، إنا لنكاد نقطع ـ إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنياتها باستخراج ما يحتويه القرآن من ثروة بلاغية في المعاني والبيان ـ بأنه لا يوجد تفسير أوسع مجالا في جهوده في هذا الصدد من تفسير الزمخشري.
ولقد كانت لعناية الزمخشري بهذه الناحية في تفسيره من الأثر بين المفسرين وبين مواطنيه من المشارقة ما هو واضح بين.
أما أثره بين المفسرين فإن كل من جاء بعده منهم ـ حتى من أهل السنة ـ استفادوا من تفسيره فوائد كثيرة كانوا لا يلتفتون إليها لولاه، فأوردوا في تفسيرهم ما ساقه الزمخشري في كشافه من ضروب الاستعارات، والمجازات والأشكال البلاغية الأخرى، واعتمدوا ما نبه عليه الزمخشري من نكات بلاغية، تكشف عما دق من براعة نظم القرآن وحسن أسلوبه.
وليس عجبا أن يعتمد خصوم الزمخشري كغيرهم على كتاب الكشاف، وينظروا إليه كمرجع مهم من مراجع التفسير في هذه الناحية، بعد ما قدروا هذه الناحية البلاغية في تفسير القرآن، وبعدما علموا أن الزمخشري هو سلطان هذه الطريقة غير مدافع.
وأما أثره بين مواطنيه من المشارقة، فأنهم أخذوا عنه هذا الفن البلاغي وبرعوا فيه، حتى سبقوا من عداهم من المغاربة، وقد بين ابن خلدون في مقدمته ـ عند الكلام عن علم البيان ـ ما لتفسير الزمخشري من الأثر في براعة المشارقة في هذا الفن فقال:
((.. وبالجملة، فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة، وسببه ـ والله اعلم ـ أنه كمالي في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرنا، أو نقول لعناية العجم ـ وهم معظم أهل المشرق ـ بتفسير الزمخشري وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله))(1).
ثم إنا نستعرض هذه الروح البلاغية التي تسود في تفسير الزمخشري فنشهدها واضحة من أول الأمر عندما أتكلم عن قوله تعالى في الآية (2) من سورة البقرة: } هدى للمتقين { .. فبعد أن ذكر كل الاحتمالات التي تجوز في محل هذه الجملة من الإعراب نبه على أن الواجب على مفسر كلام الله تعالى أن يلتفت للمعاني ويحافظ عليها، ويجعل الألفاظ تبعا لها، فقال ما نصه : ((..والذي هو ارسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا وأن يقال: إن قوله : } ألم { جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها } وذلك الكتاب { جملة ثانية و } لا ريب فيه { ثالثة و } هدى للمتقين { .. رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم حيث جئ بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ... وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك: أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدي به ثم اشري إليه بأنه الكتاب المبعوث بغاية الكمال فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضاده، ثم نفى عنه أنه يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا، ثم اخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونظمت هذا النظم السري، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة ذات جزالة، ففي الأولى: الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشفة، وفي الثانية: ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة: ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة: الحذف، وضع المصدر الذي هو هدي موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكرا، والإيجاز في ذكر المتقين، زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه، وتبينا لنكت تنزيله، وتوفيقا للعمل بما فيه)).
* * *
· تذرعه بالمعاني اللغوية لنصرة مذهبه الاعتزالي:
كذلك نرى الزمخشري ـ كغيره من المعتزلة ـ إذا بلفظ يشتبه عليه ظاهره ولا يتفق مع مذهبه، يحاول بكل جهوده أن يبطل هذا المعنى الظاهر، وأن يثبت للفظ معنى آخر موجودا في اللغة.
فمثلا نراه عندما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآيتين (23،22) من سورة القيامة : } وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة {.. يتخلص من المعنى الظاهر لكلمة ناظرة، لأنه لا يتفق مع مذهبه الذي لا يقول برؤية الله تعالى، ونراه يثبت له معنى آخر هو التوقع والرجاء، ويستشهد على ذلك بالشعر العربي فيقول ما نصه: } إلى ربها ناظرة {.. تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ألا ترى إلى قوله: } إلى ربك يومئذ المستقر {.(1)} إلى ربك يومئذ المساق { (2)} إلى الله تصير الأمور{.(3)} وإلى الله المصير {.(4)} وإليه ترجعون {.(5)} عليه توكلت وإليه أنيب {.(6). كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد، وفي محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم، لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص، والذي يصح معه، أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل:. . . .. .
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما
وسمعت سروية(7) مستجدية بمكة وقت الظهر، حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: ((عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم)) والمعنى: أنهم لا يتوقون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه))(8).
* * *
· اعتماد على الفروض المجازية ، وتذرعه بالتمثيل والتخييل فيما يستبعد ظاهره:
كذلك نرى الزمخشري يعتمد في تفسيره على الفروض المجازية في الكلام الذي يبدو في حقيقته بعيدا وغريبا.
فمثلا عند قوله تعالى في الآية (72) من سورة الأحزاب: } إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال {.. الآية ، يقول ما نصه: ((وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظم أمرها، وفخم شأنها وفيه وجهان:
أحدهما ـ إن هذه الأجرام العظام من السموات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها، وهو ما يتأتى من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها، حيث لم تمتنع على مشيئته وأرادته إيجادا، وتكوينا، وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال: } قالتا أتينا طائعين {(1).. وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ـ وهو حيوان عاقل صالح للتكليف ـ مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع. والمراد بالأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود، كما إن الأمانة لازمة الأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز، وأما حمل الأمانة فمن قولك فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولي عليه حق.. فإذا أداها لم تكن راكبة له ولا هو حاملا لها، ونحوه قولهم: لا يملك مولى لمولى نصرا، يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ولا يمسكها الخاذل، ومنه قول القائل:
أخوك الذي لا تملك الحس(2) نفسه............ وترفض عند المحفظات الكتائف
أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك ويسمح به، ومنه وقولهم: ابغض حق أخيك، لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا ابغضه أخرجه وأداه، فمعنى: } فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان {.. فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤه.
والثاني ـ إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به، وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته } أنه كان ظلوما جهولا { حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها: ونحو هذا الكلام كثير في لسان العرب وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم، من ذلك قولهم ((لو قيل للشحم أين تذهب لقال: أسوي العوج)) وكم لهم من أمثال على السنة البهائم والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يسحن قبيحه، كما إن العجف مما يقبح حسنه، فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع وهي به آنس وله اقبل وعلى حقيقته أوقف وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.
وهنا تقوم أمام الزمخشري صعوبات ومشاكل يصورها لنا في سؤاله: ((فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حاله في تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على أحدهما، بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهة وفي كل واحد من الممثل والممثل به شئ مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحل؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول)).
ولكن الزمخشري لا يقف طويلا أمام هذه الصعوبات، بل نراه يتخلص منها بكل دقة وبراعة حيث يقول: ((قلت الممثل به في الآية، وفي قولهم لو قيل للشحم أين تذهب، وفي نظائره، مفروض ، والمفروضات تخيل في الذهن كما المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها))(1).
ثم إن هذه الطريقة التي يعتمد عليها الزمخشري في تفسيره اعني طريقة الفروض المجازية وحمل الكلام الذي يبدو غريبا في ظاهره على أنه من قبيل التعبيرات التمثيلية أو التخييلية قد أثارت حفيظة خصمه السني ابن المنير الاسكندري عليه، فاتهمه بأشنع التهم في كثير من المواضع التي تحمل هذا الطابع، ونسبه فيها إلى قلة الأدب وعدم الذوق.
فمثلا عندما يعرض الزمخشري لقوله تعالى في الآية: (21) من سورة الحشر } لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون {.. نراه يقول "هذا تمثيل وتخييل كما مر في قوله تعالى: } إنا عرضنا الأمانة { .. وقد دل عليه قوله : } وتلك الأمثال نضربها للناس {.. والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره))(2)
ولكن هذا قد اغضب ابن المنير على الزمخشري فقال معقبا عليه ((وهذا مما تقدم إنكاري عليه فيه، أفلا كان يتأدب بأدب الآية، حيث سمي الله هذا مثلا، ولم يقل: تلك الخيالات نضربها للناس؟ ألهمنا الله حسن الأدب معه، والله الموفق))(1).
ولكن الزمخشري ولع بهذه الطريقة، فمشى عليها من أول تفسيره إلى آخره ولم يقبل المعاني الظاهرة التي يجوزها أهل السنة بل ويرونها أقرب إلى الصواب من غيرها، وهو في كل ما يذكر من المعاني لا يعدم مثلا عربيا سائرا، أو بيتا من الشعر القديم يشهد لما يقوله، كما أنه لا ينفك عن التنديد بأهل السنة الذين يقبلون هذه المعاني الظاهرة ويقولون بها، وكثيرا ما ينسبهم من اجل ذلك إلى أنهم من أهل الأوهام والخرافات(3) وإليك بعض الأمثلة لتقف على مقدار تمسكه بهذه الطريقة:
ففي سورة البقرة عند قوله تعالى في الآية (255): } وسع كرسيه السموات والأرض { .. يذكر الزمخشري أربعة أوجه في معنى الكرسي، يقول في الوجه الأول منها: إن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط ولا كرسي ثمة، ولا قعود ولا قاعد كقوله: } وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه {(3).. من غير تصور قبضة وطي ويمين وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسن ألا ترى إلى قوله : } وما قدروا الله حق قدره {..
وبطبيعة الحال لم يرتض ابن المنير هذا الكلام فتعقبه بقوله: ((قوله في الوجه الأول: إن ذلك تخييل للعظمة، سوء أدب في الإطلاق، وبعد في الإصرار فإن التخييل إنما يستعمل في الأباطيل وما ليست له حقيقة صدق، فإن يكن معنى ما قاله صحيحا، فقد أخطأ في التعبير عنه بعبارة موهمة، لا مدخل لها في الأدب الشرعي، وسيأتي له أمثالها مما يوجب الأدب أن يجتنب)).
وفي سورة الأعراف عند قوله تعالى في الآيتين (173،172): } وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم، قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون { يقول ما نصه: وقوله: } الست بربكم، قالوا بلى شهدنا { من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، وقال لهم : } الست بربكم {؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام وفي كلام العرب ونظيره قوله تعالى: } إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون {(1) } فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين { (2).. وقوله:
إذا قالت الأنساع للبطن الحق ............ قالت له ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قبول، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى))(3).
ولكن ابن المنير السني لم يرض هذا من الزمخشري بطبيعة الحال، ولذا تعقبه بقوله: ((إطلاق التمثيل أحسن، وقد ورد الشرع به، وأما إطلاقه التخييل على كلام الله تعالى فمردود ولم يرد به سمع وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة، ثم إن القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه فكذلك اقره الأكثرون على ظاهره وحقيقته ولم يجعلوه مثالا وأما كيفية الإخراج والمخاطبة فالله اعلم بذلك))(4).
ويتصل بهذه الآية السابقة قوله تعالى في الآية: (8) من سورة الحديد } ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد اخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين {.. فالزمخشري يميل في تفسير الميثاق هنا إلى المعنى الذي حمل عليه اخذ العهد في آية الأعراف فيقول: والمعنى: وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقبل ذلك قد اخذ الله ميثاقكم بالإيمان حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة ومنكم من النظر وأزاح عللكم فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون))(5).
ولكن ابن المنير السني، يريد أن يحمل اخذ الميثاق الذي في سورة الحديد، على المعنى الذي ارتضاه للفظ العهد في سورة الأعراف، ولهذا نراه يرد على الزمخشري ويشدد عليه النكير فيقول: وما عليه أن يحمل اخذ الميثاق على ما بينه الله في آية غير هذه، إذ يقول تعالى: } وإذا خذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم، قالوا بلى { ولقد يريبني منه إنكاره لكثير من مثل هذه الظواهر والعدول بها عن حقائقها مع إمكانها عقلا ووقوعها بالسمع قطعا، إلى ما يتوهمه من تمثيل بسميه تخييلا، فالقاعدة التي تعتمد عليها كي لا يضرك ما يومئ إليه: إن كل ما جوزه العقل وورد بوقوعه السمع، وجب حمله على ظاهره ، والله الموفق(1).
ومسألة التمثيل والتخييل يستعملها الزمخشري بحرية أوسع فيما ورد من الأحاديث التي يبدوا ظاهرها مستغربا، وأسوق إليك مثالا آتى به الزمخشري عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (36) من سورة آل عمران : } واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم {.. قال رحمه الله ((ما يروون من الحديث ((ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها)) فالله اعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فأنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما، كقوله تعالى: } .. لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين { (2).. واستهلاله صارخا من مسه ، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن اغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها .......... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط أبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه))(3).
وبالضرورة لم يرتض ابن المنير هذا الصنيع من خصمه المعتزلي، فنراه يتورك عليه بقوله: ((أما الحديث فمذكور في الصحاح متفق على صحته، فلا محيص له إذن عن تعطيل كلامه عليه السلام بتحميله ما لا يحتمله جنوحا إلى اعتزال منتزع في فلسفة منتزعة، في الحاد ظلمات بعضها فوق بعض، وقد قدمت عند قوله تعالى: } لا يقومون لا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس { (4).. ما فيه كفاية وما ارى الشيطان الا طعن في خواصر القدرية حتى بقرها ، وذكر في قلوبهم حتى حمل الزمخشري وأمثاله أن يقول في كتاب الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام بما يتخيل، كما قال في هذا الحديث ثم تنظيره بتخييل ابن الرومي في شعره جرأة وسوء أدب، ولو كان معنى ما قاله صحيحا لكانت هذه العبارة واجبا أن تجتنب ولو كان الصراخ غير واقع من المولود لأمكن على بعد أن يكون تمثيلا، أما وهو واقع مشاهد فلا وجه لحمله على التخييل إلا الاعتقاد الضئيل وارتكاب الهوى الوبيل)).
· مبدأ الزمخشري في التفسير عندما يصادم النص القرآني مذهبه:
والمبدأ الذي يسير عليه الزمخشري في تفسيره ويعتمد عليه عندما تصادمه آية تخالف مذهبه وعقيدته، هو حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة، وهذا المبدأ قد وجده الزمخشري في قوله تعالى في الآية (7) من سورة آل عمران: } هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات {.. (فالمحكمات) هي التي أحكمت عباراتها، بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، (والمتشابهات) هي المتشبهات المحتملات، (وأم الكتاب) هي أصله الذي يحمل عليه المتشابه ويرد إليه ويفسر به(1).
على هذا التفسير جرى الزمخشري في كشافه عندما نعرض لهذه الآية، وهو تفسير لا غبار عليه، كما إن هذا المبدأ: اعني مبدأ حمل الآيات المتشابهات على الآيات المحكمات، مبدأ سليم يقول به غير الزمخشري أيضا من علماء أهل السنة، ولكن الذي لا نسلمه للزمخشري هو تطبيقه لهذا المبدأ على الآيات التي تصادمه، فإذا مر بآية تعارض مذهبه، وآية أخرى في موضوعها تشهد له بظاهرها، نراه يدعي الاشتباه في الأولى، والإحكام في الثانية، ثم يحمل الأولى على الثانية وبهذا يرضى هواه المذهبي وعقيدته الاعتزالية.
وقد مثل الزمخشري لحمل المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله تعالى في الآية (103) من سورة الأنعام } لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار {. وقوله في الآيتين (23،22) من سورة القيامة: } وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة {.. فهو يرى أن الآية الأولى محكمة والآية الثانية متشابهة، وعليه فتجب أن تكون الآية الثانية متفقة مع الآية الأولى ولا سبيل إلى ذلك إلا بحملها عليها وردها إليها.
ومثل أيضا بقوله تعالى في الآية (28) من سورة الأعراف: } وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون {.. وقوله في الآية (16) من سورة الإسراء: } وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا {.. فهو يرى أن الآية الأولى محكمة، والآية الثانية متشابهة، فلابد من حمل الثانية على الأولى ليتفق المعنى ويتحدد المراد.
ثم لا ينتهي الزمخشري من تطبيقه لهذا المبدأ حتى يتساءل عن ا لسبب الذي من أجله لم يكن القرآن كله محكما، وعن السر الذي من اجله جعل الله في القرآن آيات محتملات متشابهات؟ ولكن الزمخشري يجيب بنفسه على ما تساءل عنه فيقول: ((لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف وإذا رأى به ما يتناقض في ظاهره وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ففكر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوة في إيقانه))(1).
وهذا الجواب في منتهى القوة والسداد وابن المنير السني يمر على كل هذا الكلام فلا يرى فيه أدنى ناحية من نواحي الاعتزال لكنه يغضب على الزمخشري فقط من اجل أنه عد قوله تعالى: } وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناضرة {... من قبيل المتشابه الذي يجب حمله على آية الأنعام: } لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار {.. فيقول معقبا عليه: قال محمود: ((المحكمات التي أحكمت عباراتها الخ)) قال احمد: هذا كما قدمته عنه من تكلفه لتنزيل الآي على وفق ما يعتقده وأعوذ بالله من جعل القرآن تبعا للرأي، وذلك إن معتقده إحالة رؤية الله تعالى، بناء على زعم القدرية من أن الرؤية تستلزم الجسمية والجهة، فإذا ورد عليهم النص القاطع الدال على وقوع الرؤية كقوله: } إلى ربها ناظرة {.. مالوا إلى جعله من المتشابه حتى يردوه بزعمهم إلى الآية التي يدعون أن ظاهرها يوافق رأيهم، ولآية قوله تعالى: } لا تدركه الأبصار { ثم جمع ابن المنير بين الآيتين بما يتفق مع مذهبه السني.. ثم قال.. وأما الآيتان الأخريان اللتان أحداهما قوله تعالى: } أمرنا مترفيها ففسقوا فيها {.. فلا ينازع الزمخشري في تمثيل المحكم والمتشابه بهما))(2).
* * *
· انتصار الزمخشري لعقائد المعتزلة:
هذا وان الزمخشري ليتنصر لمذهبه الاعتزالي ويؤيده بكل ما يملك من قوة الحجة وسلطان الدليل، وإنا لنلمس هذا التعصب الظاهر في كثير مما أسلفنا من النصوص وفي غيرها مما نسوقه لك من الأمثلة وهو يحرص كل الحرص على أن يأخذ من الآيات القرآنية ما يشهد لمذهبه وعلى أن يتأول ما كان منها معارضا له.
* * *
· انتصاره لرأي المعتزلة في أصحاب الكبائر:
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (93) من سورة النساء: } ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما {.. نجده يجعل لهذه الآية أهمية كبيرة في نصرة مذهبه ويتيه بها على خصومه من أهل السنة ويندد بهم حيث يقولون بجواز مغفرة الذنب وان لم يتب منه صاحبه وبأن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار، فيقول مستغلا لهذه الفرصة المواتية للاستهزاء من خصومه السنيين ((هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد، أمر عظيم وخطب غليظ ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا، قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا، وفي الحديث: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم)) وفيه ((لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في دمه)) وفيه: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)) والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة وإتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة: } أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب أقفالها { (1).. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ ـ لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ ـ فيه حسم للأطماع وأي حسم ولكن لا حياة لمن تنادى فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل ، وهو تناول قوله: ((ومن يقتل)) أي قاتل كان من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل فمن ادعى أخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله))(1).
وفي سورة الأنعام عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (158): } يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا أيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً {.. نجد الزمخشري يمسك بهذه الآية، ويستدل بها على صحة عقيدته في أن الكافر والعاصي سواء في الخلود في النار فيقول (( والمعنى إن أشراط الساعة إذا جاءت ـ وهي آيات ملجئة مضطرة ـ ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات أو مقدمة الإيمان غير كاسبه في إيمانها خيرا فلم يفرق ـ كما يرى ـ بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيرا، ليعلم أن قوله: } الذين آمنوا وعملوا الصالحات {.. جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك أحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبهما ويسعد وإلا فالشقوة والهلاك))(2).
* * *
· انتصاره لمذهب المعتزلة في الحسن والقبح العقليين:
ولم كان الزمخشري يقول بمبدأ المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، كان لابد له أن يتخلص من ظاهر هذين النصين المنافيين لمذهبه وهما: قوله تعالى في الآية (165) من سورة النساء: } رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل {.. وقوله في الآية (15 من سورة الإسراء: }..وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {.. فنراه في الآية الأولى يستشعر معارضة ظاهر الآية لهذا المبدأ فيسأل هذا السؤال: ((كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ ثم يجيب هو عن هذا السؤال فيقول: ((قلت)) الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة، وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له)).
وعندما تكلم عن الآية الثانية نراه يستشعر مثل ما استشعر في الآية الأولى ويسأل ويجيب بمثل ما سأل عنه وأجاب به في الآية الأولى فيقول ((فإن قلت)) الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد اغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان، ((قلت)) بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا كنا غافلين فلولا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل))(1).
* * *
· انتصاره لمعتقد المعتزلة في السحر:
ثم إن الزمخشري ـ كغيره من المعتزلة ـ لا يقول بالسحر ولا يعتقد في السحرة، ولهذا نجده عندما يفسر سورة الفلق التي تشهد لأهل السنة ولا تشهد له، لا تخونه مهارته، ولا تعوزه الحيلة التي يخرج بها في تفسيره من هذه الورطة الصريحة، كما نجده يشدد النكير ويغرق في الاستهزاء والسخرية بأهل السنة القائلين بحقيقة السحر، وذلك حيث يقول } النفاثات { النساء أو النفوس، أو الجماعات السواحر، اللاتي يعقدن عقدا في الخيوط، وينفثن عليها ويرقين، والنفث: النفخ من ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثم إطعام شئ ضار، أو سقيه أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكن الله عز وجل، قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام فينسبه الحشو والرعاع إليهن وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبأون به. ((فإن قلت)) فما معنى الاستعاذة من شرهن؟ ((قلت)) فيها ثلاثة أوجه:
احدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهن في ذلك.
والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن.
والثالث: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عن نفثهن.
ويجوز أن يراد بهن النساء الكيادات من قوله } إن كيدكن عظيم {. تشبيها لكيدهن بالسحر والنفث في العقد أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك)).
وفي الحق أن هذه محاولة عقلية عنيفة من الزمخشري يريد من ورائها أن يحول الحقائق التي ورد بوقوعها الكتاب والسنة، إلى ما يتناسب مع هواه وعقيدته، ولقد دهش ابن المنير من هذه المحاولة وحكم على الزمخشري بأنه ((استفزه الهوى حتى أنكر ما عرف، وما به إلا أن يتبع اعتزاله ويغطي بكفه وجه الغزالة))(1).
* * *
· انتصاره لمذهب المعتزلة في حرية الإرادة وخلق الأفعال:
ولقد تأثر الزمخشري برأيه الاعتزالي في حرية الإرادة خلق الأفعال، ولكنه وجد ما يصادمه من الآيات الصريحة في أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فأراد أن يتفادى هذا التصادم ويعمل على الخروج من هذه الورطة الكبرى، فساعده على ما أراد، هذا المعنى الذي تمسك به المعتزلة ونفعهم في كثير من المواضع، وهو ((اللطف)) من الله فباللطف منه تعالى يسهل عمل الخير على الإنسان وبسلبه يصعب عليه عمل الخير.
هذا ((اللطف)) وما يتصل به من ((التوفيق)) ساعد الزمخشري على الخروج من الضائقة التي صادفته عندما تناول بالتفسير تلك الآيات القرآنية الصريحة في أن الله يخلق أفعال العباد خيرها وشرها، والتي يعتبرها أهل السنة سلاحا قويا لهم ضد هذه النظرية الاعتزالية.
ففي سورة آل عمران عند قوله تعالى في الآية (8): } ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا {.. نجد الزمخشري يستشعر من هذه الآية أن قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف شاء، فمن أراد ضلاله أضله، ولكنه يفر من هذا الظاهر فيقول: } لا تزغ قلوبنا { لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا } بعد إذ هديتنا {.. وأرشدتنا لدينك أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا))(2.).
وفي سورة المائدة عند قوله تعالى في الآية (41): } ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم {.. نجد الزمخشري لا يجزع من هذا الظاهر الذي يتشبث به أهل السنة ويتيهون به على خصومهم، بل نراه يفسرها حسب هواه، ووفق مبدئه فيقول: } ومن يرد الله فتنته {.. تركه مفتونا وخذلانا } فلن تملك له من الله شيئا {.. فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع: } إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله {.(1)} كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم {(2)..
وهكذا نجد الزمخشري بواسطة هذه التأويلات يخضع لمبدئه الاعتزالي في الجبر والاختيار مثل هذه المواضع القرآنية التي لم تكن طيعة له، ولكن ابن المنير السكندري لم ترقه هذه التأويلات , ولم يسلم بها لخصمه فأخذ يناقشه في معنى اللطف مناقشة حادة ساخرة، فعندما تكلم الزمخشري عن قوله تعالى في الآية (272) من سورة البقرة: } ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء {.. وتذرع بلفظ ((اللطف)) تعقبه ابن المنير فقال: ((المعتقد الصحيح أن الله هو الذي خلق الهدى لمن شاء هداه، وذلك هو اللطف لا كما يزعم الزمخشري أن الهدى ليس خلق الله وإنما العبد يخلقه لنفسه، وإن أطلق الله تعالى إضافة الهدى إليه كما في هذه الآية فهو مؤول على زعم الزمخشري بلطف الله الحامل للعبد على أن يخلق هداه، إن هذا إلا اختلاق. وهذه النزعة من توابع معتقدهم السئ في خلق الأفعال، وليس علينا هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو المسئول ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا))(3).
وعندما تكلم الزمخشري عن قوله تعالى في الآية (39) من سورة الأنعام } من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم {.. وقال: } من يشأ الله يضلله {.. أي يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به لأنه يلطف به لأن اللطف يجدي عليه، عندما قال ذلك تعقبه ابن المنير فقال: ((وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة إتباعا لمعتقده الفاسد في أن الله تعالى لا يخلق الهدي ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد، وكم تحرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرقعها وقد اتسع الخرق على الراقع))(4).
وعندما تكلم الزمخشري عن قوله تعالى في الآية (43) من سورة الأعراف } وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {.. وتأول الهداية هنا بمعنى اللطف والتوفيق كعادته، تعقبه ابن المنير ورد عليه ردا في غاية التهكم والسخرية فقال: ((وهذه الآية ـ يعني قوله تعالى: } وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله { ـ تكفح وجوه القدرية بالرد فأنها شاهدة شهادة تامة ومؤكدة باللام على أن المهتدي من خلق الله له الهدي، وإن غير ذلك محال أن يكون فلا يهتدي إلا من هدى الله ولو لم يهده لم يهتد وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدي فهو إذا مهتد وإن لم يهده الله إذ هدى الله للعبد خلق الهدي له، وفي زعمهم أن الله تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدي ولا يتوقف ذلك على خلقه تعالى الله عما يقولون ولما فطن الزمخشري لذلك جرى على عادته في تحريف الهدي من الله تعالى إلى اللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه فأنصف من نفسك، واعرض قول القائل: المهتدي من اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله ـ أي يخلق له الهدي ـ على قوله تعالى حكاية عن قول الموحدين في دار الحق } وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {.. وانظر تباين هذين القولين، اعني قول المعتزلي في الدنيا وقول الموحد في الآخرة في مقعد صدق، واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به، وما أراك ـ والخطاب لكل عاقل ت تعدل بهذا القول المحكي عن أولياء الله في دار السلام منوها به في الكتاب العزيز قول قدري ضال تذبذب مع هواه وتعصبه في دار الغرور والزوال نسأل الله حسن المآب والمآل))(1).
********
فهرس الكتاب
الموضوع
|
الصفحة
|
المقدمة ......................................................................
|
2
|
الفصل الثاني
|
|
التفسير بالرأي وما يتعلق به من مباحث ......................................
|
3
|
موقف العلماء من التفسير بالرأي ............................................
|
3
|
العلوم التي يحتاج إليها المفسر................................................
|
10
|
مصادر التفسير...............................................................
|
15
|
الأمور التي يجب على المفسر أن يتجنبها في تفسيره..........................
|
17
|
أنواع علوم القرآن............................................................
|
17
|
المنهج الذي يجب على المفسر أن ينهجه في تفسيره...........................
|
18
|
قانون الترجيح في الرأي......................................................
|
20
|
منشأ الخطأ في التفسير بالرأي................................................
|
21
|
التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي................................
|
24
|
الفصل الثالث
|
|
أهم كتب التفسير بالرأي الجائز...............................................
|
26
|
1- مفاتيح الغيب للرازي الجائز..............................................
|
28
|
2- تفسير الجلالين ـ لجلال الدين المحلي جلال الدين السيوطي..............
|
34
|
3- روح المعاني ـ للآلوسي.................................................
|
39
|
الفصل الرابع:
|
|
التفسير بالرأي المذموم أو تفسير الفرق المبتدعة..............................
|
47
|
تمهيد في بيان نشأة الفرق الإسلامية..........................................
|
47
|
المعتزلة وموقفهم من تفسير القرآن الكريم.....................................
|
51
|
أصول المعتزلة...............................................................
|
52
|
موقف المعتزلة من تفسير القرآن الكريم.......................................
|
53
|
إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة..........................................
|
53
|
إنكار المعتزلة لما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة..........................
|
54
|
ادعاؤهم أن كل محاولاتهم في التفسير مرادة الله..............................
|
56
|
المبدأ اللغوي في التفسير وأهميته لدى المعتزلة................................
|
56
|
حكم الإمام أبي الحسن الأشعري على تفسير المعتزلة..........................
|
58
|
حكم ابن تيمية على تفسير المعتزلة............................................
|
59
|
حكم ابن القيم على تفسير المعتزلة............................................
|
59
|
أهم كتب التفسير الاعتزالي...................................................
|
60
|
1- تنزيه القرآن عن المطاعن – للقاضي عبد الجبار.........................
|
62
|
2-الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ـ للزمخشري
|
64
|
التعريف بمؤلف هذا التفسير ـ التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه...........
|
65
|
قيمة الكشاف العلمية..........................................................
|
67
|
اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن الكريم.............................
|
67
|
تذرعه بالمعاني اللغوية لنصرة مذهبه الاعتزالي..............................
|
70
|
اعتماده على الفروض المجازية...............................................
|
71
|
مبدأ الزمخشري في التفسير عندما يصادم النص القرآني مذهبه................
|
77
|
انتصار الزمخشري لعقائد المعتزلة............................................
|
79
|
انتصاره لرأيهم في أصحاب الكبائر...........................................
|
79
|
انتصاره لمذهبهم في الحسن والقبح العقليين...................................
|
80
|
انتصاره لعقيدتهم في السحر..................................................
|
81
|
انتصاره لمذهبهم في حرية الإرادة وخلق الأفعال.............................
|
82
|
(1) مقدمة التفسير للراغب الأصفهاني، الملحقة بآخر تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار ص 422-423
(1) سنن الترمذي ((في أبواب التفسير)) ج2 ص157
(2) أنظر ميزان الاعتدال ج1 ص432 وتهذيب التهذيب ج4 ص261
(3) مقدمة التفسير للراغب ص423 ـ والآية من سورة ص:136
(2) مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص 31-32
(1) تفسير المنار ج 1 ص 21-24
(3) التفسير المنسوب لابن عربي ج2 ص352
(1) انظر وفيات الأعيان ج2 ص265-268
(3) الدرر الكامنة ج1 ص304
(2) وفيات الأعيان ج2 ص267
(1) لسان الميزان ج4 ص427-428
(2) كشف الظنون ج1 ص230-231
(1) تفسير الجلالين ج1 ص237-238 في الخاتمة
(2) مقدمة السيوطي لتفسير الجلالين
(1) خاتمة الجزء الأول من تفسير الجلالين ص238
(1) الآلوسي : نسبة إلى قرية اسمها آلوس، وهي جزيرة في منتصف نهر الفرات بين الشام وبغداد كانت موطن أجداده
(2) الجزء الثاني ص 130-131
(2) الجزء الثاني عشر ص 45
(1) انظر تبيين كذب المفترى ص10
(6) الحيوان للجاحظ جزء 1 ص168-170
(1) الكشاف جزء 1 ص 302-303
(1) تبيين كذب المفترى ص139
(1) مقدمة ابن تيمية ، أصول التفسير ص22
(2) أعلام الموقعين جزء 1 ص 78
(4) كشف الظنون جزء 1 ص 234
(1) كشف الظنون جزء 1 ص 237
(1) المرجع السابق ـ والآية من سورة البقرة : 102
(2) تلقبه المعتزلة بهذا ، ولا يعنون به عند الإطلاق غيره.
(1) لقب بذلك لأنه سافر إلى مكة وجاور بها زمانا حتى عرف بهذا اللقب وأشتهر به وصار كأنه علم عليه
(1) حيث قال : أنشاه كتبا ساطعا بيانه .
(2) كشف الظنون جزء 2 ص 176
(3) انظر ترجمة الزمخشري في وفيات الأعيان جزء 2 ص 509-513
(1) وهي بين الستين والسبعين معترك المنايا
(1) القرية : بكسر القاف وتشديد الراء المكسورة ، أحد فصحاء العرب ، وأسمه أيوب ، والقرية اسم أمه.
(3) كشف الظنون جزء 2 ص 173
(1) مقدمة ابن خلدون ص 646
(4) آل عمران : 28 ، النور : 42 ، فاطر : 18
(5) البقرة : 245 وفي مواضع أخرى كثيرة في القرآن.
(7) لعلها نسبله إلى سرو : محلة حمير
(2) الحس : مصدر قولك حس له ، أي دق له ، والبيت لذي الرمة.
(1) الكشاف جزء 2 ص 223-224
(1) هامش الكشاف جزء 2 ص 449
(3) أنظر ما قاله عند قوله تعالى في سورة آل عمران } وآني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم {
(4) هامش الكشاف جزء 1 ص 517
(1) هامش الكشاف جزء 2 ص 434
(3) الكشاف جزء 1 ص 302-303
(1) هامش الكشاف جزء 1 ص 294
(2) الانتصاف هامش الكشاف جزء 1 ص 924
(1) الكشاف جزء 1 ص 702-703
(1) الأنصاف ((هامش الكشاف)) جزء 2 ص 568
(3) الانتصاف هامش الكشاف جزء 1 ص 285
(1) الانتصاف : هامش الكشاف جزء 1 ص 486